عن الذين منعهم الغرب من إطعام أنفسهم
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب / كاتب يساري لبناني-

«مستعمَراتنا في الهند الغربية، مثلاً، لا يمكن اعتبارها دولاً... فالهند الغربية هي المكان الذي فيه تجد إنجلترا أن من المناسب زراعة السكر والبن وبعض السلع الاستوائية الأخرى»، جون ستيوارت ميل.
بالرغم من كل الدعاية الأوروبية والمرددين خلفها حول تخلف وبدائية زراعة أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي سيطر عليه الأوروبي، إلا أن الوثائق تشير إلى ما يناقض هذه الدعاية، فعلى سبيل المثال يشير العالم الزراعي أ.ج. فولكر الذي عُين في الهند في تسعينيات القرن التاسع عشر: «لن يجد المرء في أي مكان أمثلة أفضل على إبقاء الأرض نظيفة من الأعشاب بعناية، وعلى البراعة في تصميم معدات رفع المياه، وعلى المعرفة بأنواع التربة وبإمكانياتها، وكذلك بالوقت المضبوط للبذر والحصد، كما يجد المرء في الزراعة الهندية... لم أر أبداً صورة أكمل للزراعة كهذه»، لذلك لم يكن الحديث عن بدائية زراعة غير الأوروبي سوى مبرر لتدميرها، فبالنسبة للأوروبي أصبحت الزراعة مجرد وسيلة لاستخلاص الثروة كما منجم الذهب، ولم تعد تعتبر مصدر غذاء السكان المحليين ولا حتى قوام حياتهم، وهذا جوهر ما قصده ميل في مقولته.
في كتابه «كيف ساهمت أوروبا بتخلف أفريقيا»، يشير والتر رودني إلى أن الأفارقة قبل التواجد الأوروبي طوروا زراعتهم، وأدخلوا نباتات غذائية جديدة من خارج القارة، لكن الأوروبي أختزل هذا الإنتاج المتنوع إلى المحاصيل النقدية فقط باستبعاد الأغذية الرئيسية، فمثلاً، أُجبرت غينيا الاستوائية التي اشتهرت بزراعة نبات «اليام»، وهو محصول غذائي يحتوي على قيمة عالية من النشا والسكر، على ترك هذا المحصول، والالتزام بزرع الكاكاو فقط، كذلك تحولت كل ليبيريا إلى عبارة عن مزرعة تابعة لشركة الإطارات والمطاط «فايرستون» الأمريكية، كذلك تم التخلي عن كل المنتجات الغذائية في داهومي وجنوب غرب نيجيريا من أجل زيت النخيل، وهذا السبب كان وراء حظر تجارة العبيد؛ فالعبد الذي يستخرج زيت النخيل في نيجيريا من أجل المكانات البريطانية، أصبح أكثر فائدة من العبد الذي يُباع في أسواق النخاسة الأوروبية، على حد تعبير أحد أعضاء مجلس الشيوخ البريطاني، كذلك أجبرت تنزانيا على زراعة السيزال المستخدم في إنتاج الورق، وأوغندا على زراعة القطن.
في آسيا حدث نفس الأمر، ففي الحرب الأهلية الأمريكية قرر الفرنسيون أن دليتا الميكونج في ال?ييتنام هي المكان المثالي لزراعة الأرز، وأصبحت ال?يتنام ثالث أكبر مصدر في العالم، في الوقت نفسه كان معظم ال?ييتناميين يموتون جوعاً!
سياسة الإجبار هذه اتخذت طريقين للتنفيذ كما أشار لها رودني؛ أولاهما إنتاج الفلاحين بالسخرة، فقد كانت المحاصيل النقدية تزرع تحت تهديد السياط والبنادق الأوروبية، وهذا الإجبار كان هو السبب باشتعال حروب الماجي ماجي في تنزانيا، والثورة الوطنية في أنجولا عام 1960، وبالرغم من استخدام القوة الغاشمة، إلا أن الضرائب كانت هي الطريقة الأنجع بالنسبة للمستعمِر، فكانت الإدارة الاستعمارية تجبي الضرائب بعملة المستعمِر، فكان على الفلاحين المستعمَرين إما أن يزرعوا المحاصيل النقدية ويتخلوا عن محاصيلهم الغذائية، أو أن يعملوا في المزارع والمناجم الأوروبية، ولكي يستطيعوا مواكبة تزايد الضريبة كان عليهم أن يزيدوا إنتاجهم من المحاصيل النقدية، تاركين محاصيلهم الغذائية.
أما الطريقة الثانية فكانت المزارع الأوروبية الضخمة، فبعد غزو مملكة الكانديان (سريلانكا اليوم) عام 1815، استولى البريطانيون على أكبر هضبة في الجزيرة وسموها أرض التاج، وتقرر أن البن هو المحصول المربح في الجزيرة، فعرضت هذه الهضبة للمستثمرين البريطانيين بسعر 5 شلنات للفدان الواحد، كذلك حدث في جاوا الإندونيسية، حيث أعلن الاستعمار الهولندي أن كل الأراضي القفر هي ملك الحكومة الهولندية، ويحق لها تأجيرها لشركات الزراعة الهولندية، امتد نظام التأجير للقرى، حيث ليستطيع سكان جاوا دفع الضرائب كان عليهم أن يؤجروا أراضيهم الزراعية للشركات الهولندية مقابل العملة، كان هذا النظام يعني الطلاق بين الزراعة والتغذية، فقد اختيرت مزروعات ليس على أساس قيمتها الغذائية للبشر، وإنما لأثمانها العالية بالنسبة لوزنها وحجمها بحيث يمكن الاحتفاظ بهوامش الربح حتى بعد نفقات تصديرها لأوروبا، كانت هذه المزارع بحاجة إلى رصيد واسع وجاهز من العمال الزراعيين ذوي الأجور المنخفضة، فاتخذت الإدارة الاستعمارية عدة تكتيكات للإجهاز نهائياً على زراعة التغذية الذاتية، وجعل السكان المحليين معتمدين على أجور المزارع الأوروبية حصراً، تبعاً لذلك دمرت القوى الاستعمارية التجمعات الأفريقية المعتمدة على الزراعة، ودفعتها إلى معازل صغيرة لا تشبه أرضها الأصلية، ولا تحتوي على أبسط احتياجات الزراعة، ولأن هذه التجمعات أصبحت غير قادرة على تحقيق الكفاف، ناهيك عن الفائض الذي يمكّنها من دفع الضرائب، لذلك التجأت هذه التجمعات إلى العمل ضمن المناجم والمزارع الاستعمارية، معتمدة على الأجور فقط.
يبقى أخبث تكتيك لدفع الفلاحين المحليين إلى عدم الإنتاج، هو التكتيك الذي كانت له أوخم العواقب التاريخية، وهو سياسة إبقاء أسعار الغذاء المستورد منخفضة من خلال رفع التعريفات والدعم، كانت هذه السياسة ذات حدين، أولاً، إقناع الفلاحين أنهم لا يحتاجون إلى زراعة الغذاء بأنفسهم، لأن بإمكانهم أن يشتروه رخيصاً، ثانياً دمرت واردات الغذاء الرخيصة سوق الغذاء المحلي، وبذلك أفقرت منتجي الغذاء المحليين.
نجحت الحكومات الاستعمارية في تثبيت الاعتماد على الأغذية المستوردة، ففي العام 1647 كتب مراقب بريطاني في أمريكا الوسطى «إن الرجال منكبون على زراعة السكر لدرجة أنهم يفضلون أن يشتروا الغذاء بأسعار مرتفعة جداً على أن ينتجوه بأنفسهم، إن ربح أعمال السكر لامتناهٍ». وبسبب جحيم مزارع السكر المنتشر بشكل جنوني في القرن الثامن عشر، كانت أمريكا الوسطى تستورد كل أغذيتها من السمك المجفف والغلال والبقول والخضروات من الخارج، جعل هذا الاعتماد على الاستيراد المنطقة كلها على شفير هاوية بانقطاع الاستيراد، وحصل ذلك عام 1780 عندما انقطعت الصادرات مات 15 ألف إنسان في جامايكا وحدها، ولاتزال هذه المنطقة تعتمد على الغذاء المستورد إلى اليوم.
كانت هذه الأساليب الاستعمارية بالغة التدمير للمجتمعات، ففرض زراعة التصدير أعجز التطور بتوجيه هياكل الإنتاج والتجارة المحلية لخدمة مصالح التصدير الضيقة، فتم تدمير التجارة الداخلية التي كان من الممكن أن تفيد في التطور الداخلي المستقل. ودمرت الصناعات المزدهرة التي تخدم الأسواق المحلية، فقضى هجوم المنسوجات الرخيصة من مصانع نسيج لانكشاير على غازلي وناسجي الهند. كما أن الزراعة النقدية المعدة للتصدير في أمريكا الجنوبية قطعت التجارة الداخلية بين كياناتها؛ بسبب انعدام الاتصالات البرية لارتباط كل كيان بمينائه....
إن الزراعة النقدية المعدة للتصدير التي رسخها الأوروبي مقابل تدمير الزراعة الغذائية، كانت هي السبب وراء المجاعات التي حصلت في رقع العالم التي دمرها، كُتب الكثير عن هذه المجاعات تحت عنوان «الندرة»، لكن هذه الخرافة لم تكن موجودة أصلاً، هنالك فقط الغرب الرأسمالي الذي منع الناس من إطعام أنفسهم.
عن صفحة مجموعة العمل الوطني العربي - فيسبوك

أترك تعليقاً

التعليقات