في «الأوطان الجاحدة»
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب / لا ميديا -

نظرياً كان هنالك 25 ألف جندي وشرطي في الموصل مجهزين بأسلحة وآليات تُعتبر الأحدث على مستوى الجيوش العربية. أما فعلياً فقد كانوا 10 آلاف جندي وشرطي. وحتى مع هذا الهبوط بالعدد لم يكن ليؤثر بشيء مقارنة بالقوة المهاجمة: 1000 عنصر من العصابات أو 2000 مع خلايا نائمة داخل المدينة من البعث العراقي وجيش الطريقة النقشبندية وكتائب ثورة العشرين ذات التوجه "القومي". لو كان هؤلاء العشرة آلاف قد صمدوا لكانت الهجمة قد سُميت تعرضاً عسكرياً وانتهت في يومها، لكن حقيقة لم يُقاتل من هؤلاء سوى 40 شرطياً اعتصموا بفندقٍ وظلوا يُقاتلون إلى أن تم نسف الفندق على رؤوسهم. أما البقية فقد أطلقوا سيقانهم للريح. كانت حواف الطرق قد غُطيت ببزات عسكرية وبساطير تكفي لإكساء فرق عسكرية كاملة، بعضهم بدل سلاحه بملابس مدنية ولم يقف إلا في بغداد. مع هذه العقيدة العسكرية الفذة لم تكن الهجمة لتقف حتى عند البصرة، وكانت كل مدينة على موعدٍ مع مسرح دموي مثل "سبايكر" ولن يتجشم الجناة عندها تفحص اللهجة والسحنة الجنوبية أو أمر الضحية بأداء الصلاة والأذان لإنزال "الحكم" كما فعلوا مع الفتية المغدورين في "سبايكر"، كان الجميع سيُفرم في آلة القتل هذه، خصوصاً وأن "داعش" بعد فترة وجيزة لم يعد "ناصر السنّة"، فلم تنفع قبيلة البونمر لهجتها الغربية ولا طريقة أداء أبنائها الصلاة عندما أُعدم منها 250 فرداً على الأرصفة. كان هذا السيناريو معداً للجميع، لكن الفارق في التوقيت فقط.
لم يقف في وجه هذا السيناريو سوى فتية من الجنوب، ربّوا أنفسهم عسكرياً بأنفسهم، طوروا قدراتهم باصطياد جنود الاحتلال الأمريكي والبريطاني بأدواتهم البدائية، عبوات وبندقيات قنص. لم تكن هنالك وزارة دفاع ترصد لهم ميزانية، بل كانت تهمة "مقاومة الاحتلال" ترافقهم. كانت سفارات الدول المحتلة بإمكانها الشكاية قضائياً على من يقاتلها. هؤلاء استدعاهم ذلك الرجل صاحب الشيبة المهيبة التي تخضبت في مطار بغداد. كان هو الآخر مطلوباً من قبل الاحتلال الأمريكي، وأُكمل المسعى بفتوى الجهاد الكفائي. تجمع هؤلاء وشكلوا حائط صدٍ كسر الهجمة عند حدود بغداد. وحتى مع وقوفهم كبديل للجيش المنكسر لم يُسعفهم أحد بآليات وتجهيزات. لقد نبشوا مطامير خردوات وزارة الدفاع من أجل أن يبنوا قوتهم، لم يكن معهم إلا الله والسلاح الإيراني وقادة الحزب الصادق. من منّا لا يذكر ابتسامة الحاج علاء بوسنة في المطار. كانت كفيلة بتبدل الموازين. أُوقفت المذبحة المتنقلة وتم الإمساك بزمام المبادرة وعادوا إلى الموصل مسير ثلاث سنوات بدأت من جرف الصخر.
في "الأوطان الجاحدة" تلك التي لا تقدر انتصارات أبنائها عادة ما يتم ضياع مثل هذه الملاحم، وكان ذلك في العراق. ما إن حطت الحرب أوزارها وأيقن الجميع أن رقابهم قد أفلتت من المذبحة على ضفاف النهر، أكلوا من دافع عنهم بالأمس بشتى الوسائل التي لا حصر لها، ووضعوا قضية رئيسية مضحكة حد الجنون تقر بأن من صمد وقاتل عليه أن يُسلم سلاحه إلى من هرب.
ونحن نستذكر المذابح المروعة التي مرت بهذا الشهر قبل ست سنوات، سلام على أولئك الذين جاهدوا وقاتلوا وأوقفوا هذا المسرح الدموي. سلام على الشيبات الكريمة التي تخضبت بالدماء في مطار بغداد. سلام على قادة الجهاد والنصر أجمعين.

*كاتب وباحث عراقي.

أترك تعليقاً

التعليقات