الفلاشا أو «بيتا يسرائيل»
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب -

هم سكنة المناطق الشمالية من إثيوبيا، أي مناطق النيل الأزرق، وبالذات إقليمي "غوندرا" و"تيغرا"، ينسبون أنفسهم إلى اليهودية من خلال الاحتفاظ بنصوص يهودية مقدسة (مثل كتاب الـ"أوريت"، وهو ترجمة لكتاب العهد القديم إلى لغة "غيعز"، وهي لغة قديمة سابقة على الأمهرية في شمال شرق أفريقيا)، وكذلك ممارساتها الدينية مرتبطة باليهودية ما قبل الربانية (وهي فرقة تؤمن بالتوراة الشفاهية والمكتوبة عكس القرائين والصدوقيين). وكانت تعيش هذه الجماعة بشكل مختلط مع المسيحيين الأرثوذكس، ولكن بحكم مغايرتهم عن الأغلبية دُفع الفلاشا إلى هوامش النظام الاقتصادي الإثيوبي، حيث لم يكونوا يتملكون الأرض، وامتهنوا أغلب المهن الحرفية من الحدادة وصناعة الخزف والنسيج.
منذ العام 1905 بدأ ربط الفلاشا بالتيارات المركزية اليهودية (وخصوصاً الأوروبية)، أي تحديداً بعد صعود الأيديولوجيا الصهيونية عن طريق يعقوب بيتلوفيتش الذي يُعتبر مكتشف الفلاشا، معتمداً على رواية توراتية حول فقدان أحد الأسباط (دان) في هذه المنطقة، وبالتالي هؤلاء هم أحفاده، وهو مبعوث من الوكالة اليهودية تولى الإشراف على دورات تعليمية قامت بتعليم عدة طقوس يهودية ربانية منها الصلاة العبرية، وإضاءة الشمعدان، واستخدام شعار نجمة داوود، والتي كلها لم تكن معروفة لديهم. على الرغم من أن الفلاشا كانت علاقاتهم ببقية الطوائف علاقات طبيعية تربطها زيجات، بل إن طقوسهم الدينية كانت مشابهة للمسيحية، وفي بعض الأحيان يؤدي الفلاشا الطقوس اليهودية والمسيحية معاً، إلا أن بعثة بيتلوفيتش جعلت منهم كياناً متمايزاً عن البقية.
في ثمانينيات القرن العشرين، ومع نشوب نزاعات مسلحة بين الدولة الإثيوبية بقيادة مغنستو هيلا مريام والجماعات المتمردة، ومرور فترات القحط والجفاف، أسهم بتفكك النسيج الاجتماعي الإثيوبي، مما أدى إلى هجرات جماعية للمسيحيين ومعهم الفلاشا من شمال إثيوبيا نحو السودان، وتولى آنذاك عملاء الموساد تهريب الفلاشا الآمن إلى مخيمات اللاجئين في الخرطوم في حين تُرك المسيحون الإثيوبيون يقاسون مشقة الطريق والأوبئة، حيث هلك منهم الآلاف. من السودان بدأت عملية "موشي" في نوفمبر 1984، ودارت على نحو شهرين بتعاون أمريكي إسرائيلي سوادني، والتي قضت بنقل 10.000 من الفلاشا من مطار الخرطوم إلى فلسطين المحتلة على مدى شهرين، مقابل معونة أمريكية لجعفر النميري.
مع حلول التسعينيات وتفاقم أزمة الوضع الأمني والاقتصادي الإثيوبي، استأنفت الحكومة الإثيوبية علاقاتها مع الكيان الصهيوني بهدف الحصول على معونات أمريكية، وبدأت معها عملية "شلومو" التي أفضت إلى تجميع الفلاشا من قراهم إلى أديس أبابا، ثم إقامة جسر جوي بين أديس أبابا و"تل أبيب" أوصل إليها ما يقارب 14.300 فلاشي مع ما يقارب 10.000 من اليهود المتنصرين "الفراس مورا/الفلاشا مور".
وصول هؤلاء الداكني البشرة إلى مجتمع الثكنة الاستعماري لم يكن يعني اندماجهم فيه، فالأيديولوجية الاستعمارية تضع حداً غير قابل للاختراق، وهو حد العرق، إذ إنه بالرغم من اعتراف الفقهاء الصهاينة بيهودية هؤلاء السود، إلا أن الـ"رنبوت" (المجلس الديني الأعلى) شكك بيهوديتهم، لذلك طالب باجتيازهم طقوس تهويد، كذلك مراجعة ختانهم وتطهرهم، كما أن أحوالهم الشخصية وفتاواهم سُحبت من رجال الدين الإثيوبيين (كيسيم، مفردها كيس، وتعني حاخام باللغة الأمهرية)، وبالأخص عقود الزواج، وحُولت قضاياهم إلى فقهاء الدين الأرثوذكسيين.
على إثر هذا اندلعت احتجاجات عنيفة بين الإثيوبيين وسلطات الكيان الصهيوني، لكنها لم تغير من حقيقة وجود هذه الفئة كفئة مستفيدة من "قانون العودة"، لكنها لن تنال ما ناله اليهود الروس مثلاً. لذلك دُفعوا إلى أحط الطبقات في الكيان الصهيوني، حيث إن رأسمالهم البشري القليل أسهم بعدم استطاعتهم تكوين قوة سياسية ضاغطة، كذلك رأسمالهم الاقتصادي الضعيف وقدومهم من قرى نائية ريفية جعلهم في أدنى المراتب المعيشية والثقافية، حيث يعمل الرجال في مهن متفرقة، كما أن أشهر مهنة أمتهنتها نساء الفلاشا في الكيان الصهيوني هي خدمة المنازل.
إن وجود هذه الفئة المستوطنة التي تقبع في ذيل مجتمع الثكنة هذا بالرغم من يهوديتها التي تعتبر رأسمالاً قوياً في كيان يطيح بأسطورتين صهيونيتين أولاهما إن اليهود جمعيهم يعودون لأب واحد، وبالتالي لا تمايز بينهم، وثانيتهما هي عدم وجود أُسس عنصرية في الصهيونية.
إن هذه الفئة المستوطنة التي جاءت حالمة بالحصول على ما حصل عليه اليهود الروس، فتحصلت بالواقع على مجتمعات مزارع قصب السكر في أمريكا الجنوبية، تطيح كل الخرافات حول طبيعية هذا المخفر الإمبريالي.

أترك تعليقاً

التعليقات