إبراهيم الهمداني

إبراهيم محمد الهمداني / لا ميديا -
أصبحت الديمقراطية لغة العصر الحاضر، ودليل القيم الحضارية الراهنة، ومؤشر تطور الفكر الإنسانيّ الحديث، وأحدث صيغة لنظم الحكم، وأرقى أساليب ممارسة السلطة، في نموذجها التداولي السلمي، الذي يحمل آلية سلسة لانتقال السلطة وتداولها، بوصفها مسؤوليّة جمعية، واستحقاقاً شعبوياً، يحصل بموجبه شخصٌ ما على تكليف جمعي، للقيام بمهام رئيس البلاد، ضمن هيئة إدارية كبيرة، تسمى مؤسسة الرئاسة، يكون ذلك الشخص فيها هو المسؤول الأول عن الحفاظ على السيادة والمصلحة العليا للوطن وحقوق وحريات الشعب، وتنفيذ المهام الموكلة إليه، في سياقها الزمني المحدد، وبمجرد انتهاء تلك الفترة الزمنية، يقوم الشعب بممارسة استحقاقه الانتخابي، ليختار رئيساً جديداً للبلاد، ويقوم السلف بتسليم المهمة إلى الخلف، في أجواء وديِّة وسلمية راقية، نزولاً عند ما تقتضيه المصلحة العليا للوطن، واحتراماً لرغبة الشعب وإرادته.

تلك هي الديمقراطية في أبسط معانيها وصورها، أو ما يجب أن تكون عليه، بوصفها أهم ركائز التطور، وأرقى القيم الحضارية، نظراً لما تحمله من معاني الحرية والعدالة والمساواة، وغيرها من المبادئ والقيم الإنسانية المثالية. وبعيداً عن ديالكتيكية التأصيل المفاهيمي، وأولية الممارسة الجمعية، تظل الديمقراطية معطى نظرياً، في إطاره المفاهيمي، المفتقر لأبجديات التفاعل والممارسة والتجربة، على المستوى الواقعي الفعلي، خاصة في البلدان العربية والإسلامية، ليس لأن المصطلح غريب عن البيئة والثقافة، والفكر السياسي العربي الإسلامي، وإنما لأن الغرب الإمبريالي صدَّر إلينا ديمقراطية متناقضة الأسس، متعارضة مع بيئتنا العربية وتعاليم ديننا، علاوة على كون معظم -إن لم نقل كل- الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية مازالت تمارس الحكم من منطلق الملكية الخاصة والحق الإلهي، سواء أكانت تحت مسمى جمهورية أم ملكية أم ما في حكمهما، ولذلك يمكن القول إن الديمقراطية الحقيقية في تلك المنطقة الجغرافية مازالت في حكم الحلم المأمول، وما يُمارس تحت مسمى الديمقراطية لا يعدو كونه ديمقراطية على الطريقة الأمريكية، التي رسمها "رعاة البقر" حين أسسوا دولتهم على جماجم وأشلاء السكان الأصليين، وبنوا حضارتهم على ثقافة السلب والنهب واللصوصية، وتفوقهم العسكري على التوحش وحروب الإبادة، وديمقراطيتهم على الهيمنة والاستبداد.
وبما أن القطب الاستعماري الأمريكي المهيمن يزعم أن الديمقراطية أحد مبررات تفوقه الحضاري، واستحقاق أبويته على بقية دول العالم، فهو تارة يحتل بلداً، ويدمر مقومات نهضته، لكي يمنحه الديمقراطية، وتارة أخرى يقتل شعباً، زاعماً تحريره من ظلم حاكمه، ومرة ثالثة يمارس التسلط الثقافي والفكري، ليرغم الشعوب الأخرى على قبول التبعية، ومحو الذات، والاستسلام لمعطيات فكره وثقافته، تحت مبرر تعميم النموذج الحضاري الأمريكي... فيمكن القول إن الديمقراطية كانت الذريعة الأكثر حضورا، في تبرير هيمنة وتسلط وتدخل واحتلال الإمبريالية الأمريكية لمختلف شعوب العالم، التي مُنيت بالويلات والصراعات والحروب اللانهائية، دون أن تنعم بتلك الديمقراطية الموعودة، التي ربما احتفظ بها المستعمر الأمريكي لنفسه، لكي يحافظ على تفوقه الحضاري وريادته الإمبريالية. لكن ما طبيعة الديمقراطية الأمريكية في واقع الممارسة الشعبية والنشاط الجمعي؟
كشفت الأحداث والوقائع المتمخضة عن سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بين دونالد ترامب المرشح لفترة رئاسية ثانية، وجو بايدن المرشح المنافس، عن هشاشة الديمقراطية في بلد يدعي أنها ولدت من رحم معاناته، وزيف القيم الحضارية في بلد يزعم أنه صانعها وحامل لوائها، حيث جسَّد دونالد ترامب وحشية وهمجية وعنصرية وبدائية عقلية "رعاة البقر"، ونسف كل مزاعم الديمقراطية -التي طالما تغنت بها أمريكا- حين شكك في نتائج ونزاهة الانتخابات قبل حدوثها، وهدد باقتحام مؤسسات الدولة، وإثارة الفوضى والتخريب والانفلات الأمني، في حال فوز منافسه بايدن، وهو ما حدث بالفعل، فقد شهد بلد الديمقراطية الأول، وموطن التقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الحضاري، موجة من أعمال الشغب والفوضى والتخريب والسلوكيات الهمجية، من قبل أنصار ترامب، الذين لبّوا دعوته -عقب فوز منافسه- بإثارة الفوضى واقتحام الكونغرس، وعاشت الولايات المتحدة الأمريكية، ليلة الـ6 من يناير 2021، حالة من الفوضى العارمة، والرعب والتخريب، والقتل داخل الكونغرس، ونهب محتوياته وأثاثه، والظهور في أروقته في هيئة وحوش آدمية، نسفت كل معاني الديمقراطية وقيم التحضر والرقي، وأعادت أمريكا إلى صورتها البدائية الأولى، التي ارتبطت في الذهن الجمعي العالمي برصيد هائل من الإجرام والتوحش وحروب الإبادة، القائمة على العنصرية والشوفينية المغالية، والأنا المتعالية التي تمارس القتل بدم بارد، بوصفها أداة تنفيذ الإرادة الإلهيّة.
لو أن ما حدث في أمريكا حدث في بلد من بلدان العالم الثالث، لنُظر إليه كنتيجة طبيعية لحالة التخلف، التي يعيشها ذلك البلد، ولما تأخرت أمريكا في احتلال ذلك البلد، بحجة دعم الشرعية وتثبيت دعائم الديمقراطية. ولكن ما معنى أن يحدث ذلك في بلد الحضارة والديمقراطية، وبأمر من رئيس الدولة الإمبريالية العظمى؟! وهل يمكن الفصل بين همجية وسادية وديكتاتورية ما حصل، بوصفه وسيلة للتعبير عن رفض نتائج الانتخابات ورفض تسليم السلطة، وبين ما ينادي به المركز الإمبريالي الأمريكي من القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية؟!
إذن باختصار يمكن القول: تلك هي أمريكا.
وعلى النقيض من ذلك، شهدت الساحة السياسية الإيرانية عرساً ديمقراطياً بهيّاً، عَكَس روح الديمقراطية، وحقيقة الإرث الحضاري والقيمي والإنساني، الممتد لآلاف السنين، وعبَّر عن تجربة في الحكم والتداول السلمي للسلطة، موغلة في أعماق التاريخ، وانتقلت مقاليد حكم البلاد من الرئيس حسن روحاني، المنتهية ولايته، إلى الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي -الذي فاز بنسبة 62% - بكل سلاسة ويسر، دون حدوث أي صدامات أو مشاحنات أو حتى شجارات في الشوارع، رغم المحاولات والمؤامرات الدولية، والأموال الهائلة، التي صُرفت بهدف إفشال العملية الانتخابية في إيران، إلاّ أن حكمة القيادة، ووعي الشعب، والتفافه حول مرجعيته الدينية، واستناده إلى إرثه الحضاري، وقيمه الدينية والإنسانية، قد جعله يعي خطورة وضعه، وحقيقة ريادته المستقبلية سياسيّا وحضارياً، الأمر الذي جعل الشعب يعبر عن إرادته، ويقول كلمته، ويجدد ثورته، وينتصر لشهدائه، ويكبت أعداءه، ويفشل مخططاتهم ومؤامراتهم، من خلال هذا الكرنفال السياسي، والعرس الديمقراطي، والانتخابات التي اتسمت بمنتهى الشفافية والحرية والنزاهة، الأمر الذي أقلق دول محور الشر والاستكبار والهيمنة، وأزعج الكيان الصهيوني المحتل كثيراً، الذي رأى في فوز السيد إبراهيم رئيسي خطراً وجودياً عليه، لتعبر ردود فعل الشارع الصهيوني الغاصب عن حقيقة النزعة الحيوانية في ردة فعلها، وطبيعة النفسية اليهوديّة المشبعة بالعداء المطلق للآخر.
إن الفرق بين الديمقراطية الأمريكية والديمقراطية الإيرانية ناتج عن دور الإرث الحضاري في صياغة مواقف وأيديولوجيات وسلوكيات القادة والشعوب، في مسارها السياسي المتكامل. وهنا يتضح الفرق بين رئيس يصعد ليستلم قصراً رئاسياً وحقيبة نووية، وآخر يصعد ليستلم كرامة شعب، وسيادة وطن، وقضايا الأمة الإسلامية بأكملها، وهو الفرق بين من صعد لكي يدمر ويهيمن، ومن صعد لكي يبني مسار الحضارة الإنسانية.

أترك تعليقاً

التعليقات