أبرهة والوفد المضري
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
الحقيقة لا تموت؛ أياً كانت هذه الحقيقة، ومهما تم تغييبها عن الذهنية، وسد كل المعابر المؤدية إليها، واستبدال الوهم والزيف بها؛ فالعقول المحمدية المنطلقة بروحية عمار بن ياسر المبدئية، والسائرة في درب «سلمان» المحمدي (درب البحث عن الحقيقة)، والمعجونة بالإخلاص لله الرحمن بالوحدانية، المتمسكة بولاية الإمام علي (ع) في كل حين، المنطبعة بصدق وثورية أبي ذر؛ تؤمن بأن زمن القبول بالزيف، والمساكنة مع الأوهام، قد مات، فالزمن اليوم هو: زمن كشف الحقائق، زمن المفاصلة والإبعاد للحق عن الباطل، زمن التمايز والفرز، فلا يبقى سوى صفين: كفرٌ صريح، وإيمان صريح، ولا مكان للمنزلة الرمادية، أو المنزلة بين المنزلتين.
هذا ما تؤكده دراسة الباحث نشوان دماج التي تحمل عنوان «الرحمن، اللّغز الأكبر»، التي هي مقدمة شاملة لإيجاد مشروع بحثي كامل وقوي، لاستعادة عمقنا التاريخي والوجودي من سجون وأقبية المنوفيزية الثالوثية، لو أن لدينا مؤسسات بحث علمي، ووعياً بأهمية العلم والمعرفة، ورغبة جادة ببناء ذات يمانية لها هويتها المدعمة بالشواهد والبراهين، لا المتوقفة على الكلام الأقرب إلى الشاعرية، الذي يؤجج العواطف التي سرعان ما تخبو؛ ولكن «لا حياة لمَن تنادي».
ولأننا لا نؤمن بثقافة الجلوس في الزاوية، والاكتفاء بندب الحظ، ووضع الأصابع على الخد؛ نستمر بإبلاغ الحجة، على الأقل لكي نسلم من تأنيب الضمير، ناهيك ببلوغ مقام التوفيق باستحقاق العذر من الرحمن، بأن قد أدوا ما عليهم. هذا ما توحي به صفحات كتاب «الرحمن»، التي سنصل معها إلى حجر الزاوية اليوم، لترينا صلب الموضوع الذي من خلاله سنعرف لماذا كرسنا أكثر من عشر محطات للانتصار ليوسف أسأر، وأبرهة الحميري.
تحكي نقوش أبرهة الحميري عن لحظة إعلان الاستقلال الكامل لليمن عن الاحتلال الحبشي، بأنه «توافد مندوبو الدول والقبائل من كل فج، مباركين للملك، وناقلين إليه تهاني ملوكهم وزعمائهم. وكان أبرز هؤلاء الوفود هو: الوفد المضري، الذي جاء ذكره في النقش مقدماً على ذكر بقية الوفود القبلية العربية، الأمر الذي يبين ما تحتله مضر من مكانة في نفس الملك وشعبه، ويؤكد أن هذه العلاقة قائمة على أسس دينية، روحها الوحدانية، وعمودها الفقري هو: انتظار مقدم بشارة النبيين، والميثاق الذي واثقهم الله على الإيمان به، واتباعه، ونصرته».
ولأن اليمن بقيادة أبرهة قد عاد ليتبوأ مكانته الوحدانية، ويمسك زمام العمل بموجب ما له من دور رسالي، فإنه لن ينهض بكل ذلك إلا تشريفاً وتكريماً لمحمد، حفيد سيد مضر، الذي يجمعه باليمن جامع الأخوة المبني على الوحدانية، والذي يجعلهم مع عبد المطلب متحدين في المعركة المصيرية التي على ضوئها يتحدد مستقبل العالمين.
والغريب هو ما قام به أكثر من باحث في النقوش من تجاهل هذا الوفد، مع كل ما اكتنف ذكره في النقش من شواهد وقرائن توحي بمدى أهميته، وتفضيله على كثير ممَّن سواه! لا يدري المرؤ: أهي العصبية لسيف بن ذي يزن، تلك الشخصية المختلقة؟! أم التسليم بروايات السريان، وأحكام وتخريجات تلاميذ سرجون، الذي يعمل تحت إمرة الحلف المنوفيزي، والذي كانت أمية ذيلاً من ذيوله؟!
على أية حال، لا شك أن رسل مضر، الذين جاء ذكرهم في النقش قبل ذكر رسل الغساسنة، لهم حظوة ومكانة كبيرتان. وبحسب الروايات فإن مضر كان على رأس زعاماتها في تلك الفترة عبد المطلب بن هاشم، جد النبي. هذا يحيلنا -كما قلنا- إلى تلك الرواية التي وردت في كتب الإخباريين، والتي كان من المفترض أن يكون مكانها هنا، لا في قصة متهافتة مع شخصية مختلقة اسمها سيف ابن ذي يزن ألبست بطولة ليست لها ولا من مقامها في إخراج الحبشة من أرض اليمن، وهي قصة الوفد الذي قدم إلى اليمن برئاسة عبد المطلب (المضري) للتهنئة بإسقاط حكم الحبشة، حيث سيكون للتهنئة هنا معناها، وسيكون للوفد المضري برئاسة هذا الشيخ الموحد معناه أيضاً، بل وسيكون ثمة معنى لما ورد من حديث بين عبد المطلب، وذلك الملك الذي يستحيل أن يكون سيف بن ذي يزن؛ لأن هذا الأخير ألبس القصة لغرض في نفوس المونوفيزيين من بني أمية وغيرهم، لإدخال الفرس واختلاق غزوهم لليمن وإسقاط ما لا يقل عن 3 عقود من حياة النبي ضاعت في دهاليز معاوية وسرجون الدمشقي.
أما وقصة الوفد المضري مع أبرهة لا مع سيف المختلق، فإنها تنسجم إلى حد كبير مع السياق التاريخي لميلاد النبي الأكرم.

أترك تعليقاً

التعليقات