إبراهيم الهمداني

إبراهيم محمد الهمداني / لا ميديا -

ورد الفعل "طَبَعَ" في مواضع متعددة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا". وقوله تعالى: "تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ". وقوله تعالى: "رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ". وقوله تعالى: "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْـمُعْتَدِينَ". وتكاد تجمع في مجمل معانيها على معنى الختم والإغلاق كعقوبة للمنافقين والكافرين بكفرهم ونفاقهم، وجاء "الطبع" في اللغة بمعنى السجية والطبيعة والصفة الثابتة، ومن هنا يمكن الربط بين النفاق والكفر كطبيعة وصفة ماثلة، والتطبيع كحالة من حالات النفاق والكفر.
يأتي استعمال مصطلح التطبيع في سياق الاختراق الفكري والثقافي للمجتمعات المستهدفة، ويعد هذا المصطلح إحدى دعائم فلسفة العلاقة بين الأنا والآخر، كما تراها القوى الاستعمارية، إضافة إلى عدة مبادئ، مثل القبول بالآخر والانفتاح عليه والتعايش معه، و... و... الخ، وهي مفاهيم ذات أبعاد فكرية وثقافية عميقة، تطرح وتروج وتفرض رؤية المركز الاستعماري، لطبيعة العلاقات التي يجب أن تكون مع الهامش المستلب المستعمَر المغلوب، وهي علاقة - رغم ما تدعيه من مثالية - تطرح مركزية الغالب، وتفرض تبعية منطق القوة، بوصفه النموذج الحضاري الناجح والمثالي، ونظرا لتفوقه السياسي والحضاري والتكنولوجي والعسكري، يتحتم على الآخر - المتخلف، النامي، المستهلك - أن يكون تابعا مطلقا للنموذج الحضاري المتقدم، الذي يمتلك كل مقومات القيادة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا و... الخ، وبعد هذه التهيئة القائمة على الاستلاب، يأتي دور مصطلح التطبيع، لتبرير الحالة الانهزامية، التي يتجرعها التابع المستلب، تحت مسمى تطبيع العلاقات بين الطرفين، وإعادتها إلى سابق عهدها وسياقها الطبيعي، وبما أن عملية الاغتيال الفكري والثقافي، قد تمت سلفا، وعملية تدجين العقول وتوجيه مسار الفكر الجمعي، قد تحققت مقدما، وفي ظل أزمة الوعي والتدجين الجمعي، فإن مهمة دعاة التطبيع، قد أصبحت من السهولة بمكان.

ما إن تنطلق دعوات التطبيع، وتذاع مشاريع دعاتها تحت مسميات الحداثة، وحوار الحضارات والتعايش السلمي بين الأمم، وغيرها من الشعارات الرنانة، حتى تلاقي ترحيبا كبيرا، وصدى واسعا لانتشارها، ولا يعود السبب في ذلك إلى وعي الشعوب بحقيقة تلك المفاهيم، أو قدرة أولئك على الإقناع، وقوة حجتهم، بل السبب الحقيقي لذلك هو استلاب المجتمعات لهيمنة الأنظمة القمعية الحاكمة، واستسلام الوعي الجمعي لحالة العمه والتزييف، الذي قضى على كل مظهر للحقيقة لديهم.
إذا كان التطبيع في أبسط وأقرب معانيه، يعني إعادة الشيء إلى طبيعته وأصله، وجعله طبيعيا مألوفا، فهل يمكن القول إن التطبيع مع الكيان الصهيوني، هو إعادة العلاقات إلى أصلها وما كانت عليه، والنظر إليها في سياقها الطبيعي، وأنها أمر عادي مألوف، لا غبار ولا خلاف عليه؟
لمعرفة طبيعة العلاقة القائمة بين طرفين أو أكثر، يجب أولا دراسة حيثيات تلك العلاقة، وتحري اكتمال شروطها وأركانها، وأسباب نشوئها، ثم بعد ذلك - وبناء على مخرجات المعطيات السابقة - يتم تحديد طبيعة العلاقة بين القبول والرفض، أو الاتصال والانفصال.. وهكذا، ويلعب الزمن دورا هاما، في رسم ملامح تلك العلاقة وكشف أبعادها، وسبر أغوارها ومعرفة عمقها وأثرها، وعادة ما تتشكل العلاقات في خطين زمنيين يكملان بعضهما؛ فهناك العلاقات التزامنية، التي يتزامن وجود طرفيها في خط زمني أفقي، يبدأ من الحاضر - غالبا - ويمتد إلى المستقبل، ليتوقف عند نقطة معينة، ويغلب على هذا النوع من العلاقات طابع الصراع والتنافس، وأحيانا التكامل والانسجام، عند تحقق ندية الطرفين، وتوحد مصالحهما، أو وجود مشترك حضاري كبير، يقتضي وحدتهما وتكاملهما، وهناك العلاقات التعاقبية، التي تسير في خط زمني رأسي، وغالبا ما تمثلها العلاقات بين الأجيال المتلاحقة، أو الحضارات والدول المتعاقبة، حيث يقوم الطرف الثاني على أنقاض الطرف الأول، وفقا لقانون الحياة ومنطقها، وغالبا ما توصف هذه العلاقة بالتكامل الفكري والحضاري، رغم مآخذ اللاحق على السابق، إلا أنه يعترف له بالفضل، وأحيانا قد تبنى العلاقة على القطيعة والانفصال المحدود، بخاصة حين يكون السابق مستعمرا أو نظام حكم ظالماً مستبداً، وعموما فإن أية دراسة لأية علاقة لا تخرج عن محددات سياقها التاريخي ومعطياتها الزمكانية، لتشكل في مجموعها الإطار المرجعي لتلك العلاقة.

من خلال الطرح السابق، لا يمكن قراءة التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، إلا بعد تحديد إطاره المرجعي الزماني/ التاريخي والمكاني/ الجغرافي؛ فهل يوجد امتداد تاريخي - زمكاني لهذه العلاقة، سواء مع المسلمين في إطار ثنائية الدين، أو مع العرب في إطار ثنائية القومية؟!
يعد النص المقدس هو المرجعية الحقيقية لطبيعة العلاقة في إطار ثنائية الدين، فنصوص التوراة - رغم تحريفاتها - ترسم البنية الكاملة لصورة علاقة الأنا/ اليهودي مع الآخر/ المختلف، وطبيعة الموقف منه، حيث تقوم صورة الذات/ اليهودية على أساس التفضيل الإلهي لشعب "إسرائيل"، أبناء الله وأحبائه، وهي منزلة لا يشاركهم فيها أحد، وبناء عليها تضخمت الأنا اليهودية، حتى وصلت مرحلة الغرور المطلق، وهنالك لم يتجاوز الآخر/ الغوييم في نظرها مرتبة الحيوان في أحسن الأحوال، وإلا فهو أدنى شأنا، لأنه لم يخلق إلا لخدمة شعب "إسرائيل"، وتسليته والقيام بشؤونه، ولم يخلق على هيئة الإنسان، إلا ليستأنس اليهودي بتلك الصورة، ولا تقف طبيعة العلاقة عند هذا المستوى من التعالي المفرط، بل يصبح قتل الغوييم على يد اليهودي، خطيئة توجب الاستغفار فقط، إن لم يكن هناك سبب لقتله، أما إذا كان قتله بدافع التسلية، أو التدريب، أو احتمال صدور الأذى منه، فليس في ذلك أية خطيئة أو استغفار، حتى وصل بهم الأمر إلى إصدار فتوى "لا ندفع ولا نرفع"، في مسألة الأغيار، وتعني هذه الفتوى أنه محظور على اليهودي إنقاذ أحد الأغيار/ الغوييم، إن رآه وهو يغرق، كما يحظر عليه دفعه إلى الماء، والتعجيل بغرقه، وكانت هذه الفتوى تمثل صورة اليهودي المعتدل، في حال كان محكوما وليس حاكما، وبهذه الصورة المغرقة في الأنانية والعدوانية، تتحدد شخصية اليهودي، وتتضح طبيعة علاقته بالأغيار/ الغوييم، الذين يتهافتون إلى التطبيع معه، وهي علاقة ذات مرجعية دينية يهودية متعصبة.
وفي القرآن الكريم يحتل اليهودي المرتبة الأولى، في الخداع والإجرام والكفر وقتل الأنبياء، ومحاربة الله تعالى، ورفض أوامره ونواهيه، جريا على نهج إبليس اللعين، في الإجرام والإضلال، ويرسم النص القرآني طبيعة العلاقة التي يجب أن يتبناها المسلم تجاه اليهود، بوصفهم أشد عداوة للذين آمنوا، كما يحذر من الركون إليهم أو موالاتهم، مهما كانت المبررات والأسباب.

قلنا في المقال بأن النص القرآني يحذر من الركون إلى اليهود أو موالاتهم، مهما كانت المبررات والأسباب، كما يحذر من خطورة دورهم في إثارة الفتن، وتحريف كلام الله، وتزييف وعي الناس، والانحراف بهم إلى مسارات الضلال باسم الدين، لأنهم يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ويكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله، ويفترون على الله الكذب، ويكتمون ما أنزل الله، وغير ذلك من الصفات السلبية.
وعلى المستوى القومي، فقد قامت القومية على أساس الانتصار للجنس العربي، والإعلاء من شأنه، بغض النظر عن انتمائه الديني أو المذهبي أو الطائفي أو الحزبي، ويكفي أنه عربي، لينتظم في سلك القومية العربية، ولذلك كانت مقاومة الاستعمار من أولويات الفكر العربي القومي، لأن الاستعمار الصهيوني - بالذات - دخيل على القومية العربية، بما هي مجموع الثقافة والتاريخ والعادات والتقاليد، والنطاق الجغرافي المشترك، وهو بذلك كيان طفيلي دخيل على الثقافة والتاريخ والجغرافيا والموروث والهوية، حيث تموضع على أرض فلسطين العربية، هذا الكائن المحتل الغاصب، يدعي حقا تاريخيا، ويزعم أحقيته في الوجود دون سواه، ويشرعن اغتصابه الأرض، بنظرية الإرث الديني حينا، ونظرية المنحة السياسية - من وعد بلفور - حينا آخر، ونظرية الغلبة والقوة العسكرية، والأمر الواقع مرة ثالثة، وهو ما يؤكد طبيعة هذا الكائن السرطاني الدخيل، الذي تم تجميعه من مختلف بلدان العالم (الشتات)، وتم توطينه في أرض لا تربطه بها أدنى علاقة، ولا ينتمي إليها بأبسط تموضعات الانتماء، فهو عبري الهوى، صهيوني الهوية، مختلف ثقافيا وفكريا ودينيا، لا يمكن قراءته وجوديا، إلا في سياق كونه محتلا غاصبا، يجب مقاومته بكل الوسائل، وإخراجه من الأرض العربية، ذات الهوية والثقافة والقومية الموحدة، والانتماء والتاريخ والموروث الواحد، مما يؤكد أن العلاقة مع اليهود لم تكن طبيعية ومنسجمة، حتى نقول إنه يفترض بها أن تكون كذلك.
وفي ظل افتقار عملية التطبيعية مرجعية، وأية صورة من صور ضرورات الاندماج الحضاري أو الاجتماعي، تحت أي مسمى لمشترك جمعي، تظل عملية التطبيع خطة مشبوهة، دالة على طبيعة وحجم الاغتيال الفكري والثقافي والمعرفي، الذي تنتهجه الماسونية في "حرب المصطلحات"، وكيف تعمد إلى وضع معانٍ مزيفة ومحرفة، بما يخدم التوجه الصهيوني، والسياسة الاستعمارية اليهودية، هذا من جانب...

 ومن جانب آخر، فإن عملية التطبيع لا تعدو كونها حضورا افتراضيا، وصفقة سياسية، قامت بها الأنظمة الحاكمة الخليجية وغيرها، من أجل إرضاء ترامب، وضمان البقاء في السلطة بحمايته ورعايته، كما قام بها ترامب لكسب ود اللوبي الصهيوني، ونيل رضاه وتأييده، والفوز بفترة انتخابية قادمة، واحتفل بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني المحتل، ليروج من خلالها لنفسه سياسيا، ويغطي بها هزائمه المتلاحقة، وسياساته العاجزة عن كبح جماح المقاومة، أو كسب أية معركة سياسية أو عسكرية.
مثلما كان وعد بلفور عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، كذلك الشأن بالنسبة لعملية التطبيع، فكلاهما فاقد مشروعية وجوده وحضوره، على مستوى الزمان والمكان، ومجرد الإعلان عنهما، من قبل ممثلي القوى العظمى - بلفور وترامب - لا يكسبهما أية مشروعية، ولا يمنحهما فرصة البقاء، أكثر من فرصة بقاء قوى الهيمنة ذاتها.
إذن.. ما الذي تمثله الإمارات والبحرين - وغيرهما من الكيانات الوظيفية - في ميزان القوى، التي تدير الصراع العالمي، لكي يستند إليهما الكيان الصهيوني في إثبات حقه ومشروعية وجوده؟ أليست "إسرائيل" بذلك "مثل الضعيف يلوذ تحت القرمل"؟! 
هل سينجح التطبيع في تحقيق اندماج "إسرائيل" بمحيطها اندماجا اجتماعيا وثقافيا؟ وإلى أي مدى سيتحقق ذلك، بخاصة في ظل العنصرية اليهودية البينية والغيرية؟!
في أي سياق يمكن قراءة عملية التطبيع، مادامت لم تخرج عن سياق وطبيعة وعد بلفور؟ وهل تنجح "إسرائيل" في الفوز بزعامة الشرق الأوسط (العالم العربي)، وتحويل جامعة الدول العربية إلى جامعة الدول الشرق أوسطية؟ وما أثر ذلك على موازين القوى العالمية، وصياغة معادلة الصراع العالمي القادم؛ محور المقاومة ضد محور الهيمنة والاستعمار؟
هل تهدف "إسرائيل" من عملية التطبيع الوصول إلى زعامة الدول العربية والإسلامية - المُطبِّعة - في حرب عالمية ثالثة ضد ما تبقى من الشعوب العربية والإسلامية الرافضة للتطبيع؟!
وهل تجرؤ "إسرائيل" على الظهور في الواجهة؟ وما هي رهاناتها، خصوصاً في ظل تنامي محور المقاومة؟!
هل يمكن القول إن هزائم تحالف العدوان ومرتزقته في اليمن، وانهيار ذلك التحالف سياسيا وعسكريا وماليا، قد جعل "إسرائيل" تعجل في تنفيذ مشروعها، وإخراج عملية التطبيع الهزيلة، لتشكل من خلالها تحالفا جديدا لحرب اليمن؟!
إذن.. كيف يمكن قراءة عملية التطبيع في ظل معطيات القومية العربية؟!

أترك تعليقاً

التعليقات