محاريب وخنادق جبر «الخواطر»
 

محمد الباشق

حلقات يومية يكتبها القاضـي محمـد الباشق / لا ميديا -

حلقة اليوم سأتحدث فيها عن فريضة قصّر وفرط فيها الكثيرون، وهي من فرائض الدين ومن منهج الأخيار والحكماء والعقلاء والصالحين، وحتى من أراد حسن السياسة والحصول على المكانة الاجتماعية نجد أنه يقوم بها. هذه العبادة هي من ثمار المحبة لله سبحانه وتعالى، ومن بركات المحبة لرسول لله سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله، ومن أصدق البراهين على العقل الراجح والمنطق السليم والحكمة والأصالة والشهامة. كل هذا الفضل وأكبر وأكثر لعبادة "جبر الخواطر"، نعم، فإن من قام بها غرس الله محبته في قلوب الخلق وانجذبت إليه بالمودة.
وتعريف عبادة جبر الخواطر أن الجبر هو توفية النقص بالمعالجة أو الإصلاح لما حصل من خلل أو نقص في أداء المهام ووظائف البدن، فنقول فلان جبر كسر فلان بالمعالجة. والخاطر هو ما يخطر في القلب من فكر أو هاجس. وجبر الخاطر هو إدخال السرور على الحزين ومواساته بحسن الكلام وبالفعل، وليس فقط الحزين والمهموم والفاقد لعزيز أو المصاب بأمر مكروه، بل جبر الخاطر الأصل أنه حسن فعل وقول مرتبط ببشاشة الوجه وانتقاء الألفاظ وجمال اللقاء وكذا جمال الوداع ونبل العطاء.
وهنا أضرب نماذج لعبادة جبر الخواطر، فأول مجبور الخاطر هو سيدنا آدم وأمنا حواء، جبر خاطرهما بإلهامهما كلمات الاعتذار وقبلهما وتفضل عليهما سبحانه وتعالى، فأول جابر للخواطر والمستمر هو الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى يعرفه المولهون بذكر الله ولهاً استولى على سويداء القلب، فوجدوا دائما من الله الجبار جبرا للخواطر. رغم أن البعض يظن أن الجبار اسم فقط لهلاك الجبارين ودفع كيدهم، فإن جبر الخواطر معنى يوجد في الاسم نفسه. وكذا يوجد جبر الخواطر من تجليات الحنان والمنان والغافر والغفور والغفار والودود واللطيف والرحيم والمحسن والحفي والمنعم والمتفضل والتواب وقابل التوب وقابل الأعمال والشكور القابل لليسر والغافر للكثير... وآية: "لا تقنطوا" خطاب ربنا الرؤوف الرحيم لمن أسرف على نفسه جبرا للخواطر، وآيات النهي عن اليأس والابتئاس والحزن والقنوط كلها جبر للخواطر، حتى عبادة الكفارات بالإطعام والكسوة هي جبر للخواطر، جبر لخاطر من يقدم الكفارة، بأن الله يغفر له بقيامه بجبر خواطر العباد.
كما جبر الله خاطر سيدنا نوح عليه السلام، ووصف سبحانه إجابته لدعائه في "سورة الصافات" بقوله: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون}. تأملوا في هذا الجبر لخاطر رسول صبر على أجيال بعد أجيال لمدة 950 عاما وهو يدعوهم وهم في جفاء له وتجاف عن دعوته حتى تواصوا بالكفر، فلم يكن هناك مجال إلا الدعاء عليهم، فجبر الله خاطره. وكذا قصة قوم يونس لما حل بهم العذاب حسب ما قال لهم نبيهم سيدنا يونس عليه السلام الذي جبر الله خاطره بما دعا به، وجعله جبر الخاطر لكل من وجد غماً أو هماً لا يدري له سبباً أو لكل من طلب تفريج الكرب، وقد خرج قوم يونس بدوابهم ومواشيهم إلى ساحة قريتهم وتضرع الجميع (كباراً وصغاراً) في منظر كله استغاثة والتجاء وبكاء ودعاء. وقد وصف الله هذا الموقف في الآية 98 من "سورة يونس"، وكذلك عفو سيدنا يوسف عن إخوته لما شاهد انكسار خواطرهم من ضر الفقر.
والحال نفسها مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ضيقت عليه قريش بعد وفاة عمه سيدنا أبي طالب، المؤمن المظلوم فيما يزعمونه كفره حاشى وكلا، وقد ألف زيني دحلان، مفتي مكة أيام دولة الأشراف، كتابا موجودا في المكتبات ويتوفر على شبكة الإنترنت بعنوان "أسنى المطالب في نجاة سيدنا أبي طالب". أعود للموضوع بعد مضايقة قريش له خرج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف فوجد منهم شر استقبال، سلطوا عليه سفهاءهم وآذوه بالكلام الجارح والرمي بالحجارة، وكلها تصرفات تكسر الخاطر، فأرسل الله سبحانه وتعالى ملائكة تحت أمره منفذين ما يريد من هلاك للقريتين (مكة والطائف) إن أراد؛ لكنه صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنهم، وأسلم على يديه غلام من سلالة قوم يونس وصار داعيا بحكمة وهدوء إلى الإسلام، وأرسل إلى نفر من الجن آمنوا ودعوا قومهم وفتح الله له آفاق الملكوت في رحلة الإسراء، تحدث عن مشاهد عنها في "سورة النجم": {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}.
جبر الخواطر هي رحمة من الله لعباده، يقبل تائباً، ويهدي ضالاً، ويرشد حائراً، ويعطي معدماً، ويجيب مضطراً، ويكشف سوءاً، ويستر مذنباً، ويلهم صالحاً، وينير بصيرة فاضل، ويكرم ذاكراً، وينصر مجاهداً، ويشفي صدور قوم مؤمنين... وعلينا إخواني أن نحيي هذه الفريضة في واقعنا وعلاقاتنا الاجتماعية وصلاتنا الإنسانية، فعجبا أن يوجد صائم جلف الأخلاق فض الأقوال والأفعال! وعجبا لمن يكون وجيهاً ويكون قاسي القلب، أو مسؤولا مهملا أو جبارا، فجبر الخواطر عبادة، وبمقدار ما نريد من الله أن يجبر خواطرنا علينا أن نجبر خواطر بعضنا، وهذا من الميسور الذي أمر الله به المنفق أن يقوله لأقاربه وللمساكين ولابن السبيل، أن يقول لهم إذا قلّ ماله هو منتظر من الله أن يوسع رزقه أن يقول لهم قولا ميسورا، لينا، لطيفا، لا فضاضة تصاحبه ولا غلظة معه، فلا وجه مكفهر ولا تصرف غليظ ولا حركة يد أو رجل أو إشارة فيه للضجر والتضايق، بل يعد أنه ينتظر الرحمة من الله بالسعة وسيعطيهم بلا منّ ولا تفضل، فالفضل لصاحب الفضل.

أترك تعليقاً

التعليقات