محاريب وخنادق
 

محمد الباشق

حلقات يومية يكتبها يكتبها القاضـي محمد الباشق / لا ميديا -

لنستقبل شهر رمضان المبارك بقلوبنا. أهلاً بشهر رمضان المبارك، شهر الصيام، يفهمه أصحاب البصيرة أنه فرصة للقرب من الله سبحانه وتعالى. وحتماً فإن القرب من الله ينطلق من صفاء القلب، فالقلب الصافي من الحسد والكبر والعجب والحقد والعناد والرياء والقنوط واليأس والتشاؤم وكل خلق سيئ يبدأ بالنية، فلا ينوي سراً، فالنوايا كما يقول أرباب التصوف ورجال العرفان النوايا مطايا، وفي دعاء مولانا زين العابدين عليه السلام المعروف بدعاء مكارم الأخلاق يقول فيه متضرعا لله تعالى وانتهى بنيتي إلى أحسن النيات. 
وليست النية غيباً، بل إن لها ظهوراً وحضوراً في قسمات الوجه والأقوال والأفعال، فمن سمت نيته وجد صلاح البال الذي يعني راحة الضمير. ويا لها من نعمة حرم منها كل من في قلبه دنس! ومن صفا قلبه تحلى بسلوكيات طيبة، فهو محسن إلى خلق الله عموماً. ومن حسن النية جاء حسن العطاء وحسن الكرم بما يستطيع، فمن جاد بصدق الابتسامة عند اللقاء يجود بالعطاء حسب مقدوره والمستطاع، ومن بخل ببشر الوجه وانبساطه لا يتوقع منه التفكير في بذل المعروف وإغاثة الملهوف، وما جاء بشر الوجه إلا من قلب صفا وسما وطهر وتزكى. فأهلا بشهر الصيام، شهر رمضان المبارك، ونحن نستقبله نراجع سلوكياتنا، نتأمل في حياتنا، أقوالنا، أفعالنا... والبداية من نياتنا لنجعل من هذا الشهر المبارك فرصة للقرب ممن يعلم السر وأخفى ويسمع الشكر والشكوى والنجوى، يجيب المضطر، يكشف السوء، يعطي السائل، يغيث الملهوف، يقبل من جاءه تائباً، يسعد من أناب، تحيط أنواره بمن أقبل بقلبه إلى رحاب خالقه وفاطره وبارئه ومصوره، فمناجاة القلب لا تحتاج إلى نحو ولا تريد بلاغة ولا تجد متسعاً للمنطق والفلسفة ولا بحثاً في النظريات والأفكار البشرية، فمناجاة القلب لله، حسن الظن بالدخول في سعة رحمته، يقول بلسان حاله بكل خلية في كيانه: رب أدخلني في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.
الدخول في رحمة الله هو الحصول على سوابغ النعم الظاهرة والباطنة، فمن دخل في رحمة الله وجد في كل أحواله مهما قاسى من تقلبات الدنيا ونوائب الدهر وجد رحمة بها ينال صلوات الجليل وهدايته. من دخل في رحمة الله وجد النجاة من كل اختلاف وفتنة. من دخل في رحمة الله بيض الله وجهه في الدنيا ويوم القيامة. وما نيل الدرجات والمغفرة وكل خير إلا والرحمة هي العطاء الجامع والنعمة التامة. فالله الرحمن الرحيم، أرحم الراحمين، خير الراحمين، وأسماء الرحمة أوسع الأسماء عدداً وأظهرها وأسرعها أثراً، والملائكة تدعو للخلق بالرحمة متوجهين لخالق الرحمة وباسطها: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
والهدف العام والجامع لأهداف الرسالة المحمدية هي الرحمة. "وما أرسلناك إلَّا رحمة للعالمين"، بل في حال التكذيب تذكير للخلق بالرحمة: "فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين".
والكتب السماوية كلها جاءت بالرحمة أولا وأخيرا. فكتاب موسى عليه السلام، التوراة، في الآية 154 من سورة الأنعام موصوف بالرحمة، وكذلك الإنجيل رحمة في قلوب الذين اتبعوه ورأفة ورحمة، والقرآن الكريم المعجزة الخالدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصف الرحمة ملازم له، في آيات كثيرة مع البصائر والهدى والنور والفرقان والشفاء والبركة ومبارك وحكيم ومجيد ومنير نجد الرحمة: "رحمة من ربك". بل إن عطاء الرحمة من العطاء اللدني، أي مباشر من الله الرحمن الرحيم. لذا كل نجاة من القوم الظالمين نجد القرآن الكريم يصف هذه النجاة بأنها رحمة. كل إجابة دعاء رحمة. كل إقبال بعد غفلة أو معاصٍ أو سيئات رحمة. بل خاطب الله المسرفين على أنفسهم بلفظ كله رحمة، قال: "يا عبادي"، نسبه الله إليه رغم حالة الشرود عنه التي عاشوا في ضيقها ردحاً من الزمن أو حينا من الوقت دعاهم إلى رحمته: "لا تقنطوا من رحمة الله". ولأنه شهر أوله رحمة فلنستقبله بقلوب تفيض رحمة ونتواصى جميعاً بالرحمة. الرحمة نية طاهرة وقول طيب وخلق كريم وسلوك مستقيم وعطاء وبذل بحب الرحمة. 
الرحمة عطاء الله وبرهان رضاه وإن بذلوا حياتهم لله جهاداً للطواغيت عطاء جاء الوصف الكريم في الآية 21 من سورة التوبة قوله تعالى: "يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم".
فلكل خير في الدنيا والآخرة نستقدمه، بل روح له ونور وأمان واستمرار ونمو وزيادة عطاء، الرحمة. 
لنرحم أنفسنا فنزكيها، ولنرحم نياتنا فنحسنها، ولنرحم أقوالنا فتكون أقولا، والأقوال أوصافها في القرآن الكريم أحسن حسناً بليغاً سديداً كريماً معروفاً ميسوراً... كلها أوصاف الرحمة، روح الأقوال قبل التلفظ بها. ولنرحم سلوكياتنا ومواقفنا فتكون مستقيمة. ولنرحم بعضنا بعضاً بالإحسان والعطاء، لذا فإن من دركات الأشرار البخل واللؤم والأنانية.
وأي مجتمع روح تعامل أبنائه الرحمة مجتمع سعيد. وأي مجتمع فقد الرحمة أو ضعفت بين أبنائه الرحمة فهو في حالة مرضية أخطر من كل فيروس وأفتك من كل وباء، وهي أزمة الأزمات، فمن وعى وفهم أهمية الرحمة فهو إنسان يترقى من الإنسانية إلى الربانية.

أترك تعليقاً

التعليقات