الهجرة بين أعظم جد وأوفى حفيد
 

محمد الباشق

القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلوات الله وسلامه في كل لمحة وأوان وحين على سيدنا محمد، كعبة القلوب، وآله، صلاة تهوي بها أفئدتنا إليهم، وحنايا نفوسنا تحن إليهم، فنسعد منهم بنظرة تعطف وتصل صلواتنا وسلامنا مسبوقا بإنابة شوقا، واستغفار محاط بود حب ظاهر ثقة أن الوافد إليهم ما خاب وأن المتوسل بهم ما يرد، وأن معلن الحب لهم حاز شرف الدارين. أما بعد:
إخواني القراء الكرام أتحدث في هذا الموضوع عن الهجرة الشريفة، من أعظم جد إلى أوفى حفيد، ما حصل من خروج سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله من مكة المكرمة إلى يثرب، والتي بوصوله تحولت إلى المدينة، وتحول أثرها من بلد منتج للتمور إلى بلد أعمال أهله مصدر من مصادر الفقه الإسلامي، فعمل أهل المدينة من مصادر التشريع بعد الكتاب وصحيح السنة والعقل ومنهج العترة، فما حفظ واشتهر من أعمال أهل المدينة إنما له أصل من صاحب الشريعة مهوى أفئدة الخلق خير البرية.
لذا، بعون الله أتحدث عن نقاط استمرار منهج الهجرة بين هجرة الرسول صلوات الله عليه وآله وهجرة الإمام الحسين، فهجرة سيدنا رسول الله امتداد لهجرة الخليل والكليم والأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم وعلى آلهم. وجهاد الإمام الحسين هو امتداد لخط الأنبياء والمرسلين، فما جاهد الربيون وما صبر المخلصون وما بذل المنفقون وما هاجر المهاجرون وما ناصر الأنصار إلا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة كل من كفر وفجر وفسق وظلم هي السفلى.
فالتطبيق العملي والسلوكي لهدف الاستخلاف في الأرض بأمة لله وبالله تحيا وتنعم بطيب الحياة، إنما بوجود من يعيش قدوة ويغادر الحياة قدوة، فتكون حياته الأولى تشريعا وحياته الأخرى في جنان الخلد يستقبل من يأتي من بعده على هذا الخط وهذه الخطى بلا تبديل، فلا زيغ ولا هوى. ولئن أخذت الأمة تشريع الصلاة من سيد الخلق بصيغة «كما رأيتوني أصلي»، وصيغة تطبيق الصيام كما شاهد أهل المدينة صيامه فنقلوه إلينا، وكذا الزكاة والحج «خذوا عني مناسككم»، فإن جهاده صلوات الله وسلامه عليه وآله أخذ رايته الحسين تطبيقاً عملياً، ومن بعد الإمام الحسين الإمام زيد، ومن بعد الإمام زيد أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أعلام العترة وأخيار أحرار كل جيل تحت قيادة الرضا من آل محمد من كل جيل إلى عصرنا هذا.
فلله الحمد أن عرفنا هذا الخط وفهمنا هذا النهج وحبب إلينا هذا السبيل، فالهجرة بهذا الفهم جهاد مستمر، فهجر اللات والعزى وهبل وعجل السامري ويغوث ويعوق وود ونسر ومناة، وجميع الأصنام من أحجار وبشر وفكرة وهوى وشهوة وشبهة وأموال ونفط وإعلام وزعامات وملأ مستكبر ومجلس أمن غير آمن، ودول ومنظومات سرية أو علنية ومحافل ونوادٍ وأحزاب ومؤسسات تقوم على مصالح دونية وأهواء وفساد وإفساد، وبقية الأصنام ومعبودات البشر أخطرها، نعم، أخطر من كل ما تمت الإشارة إليه، إنها عبودية الذات، إنها آلهة الأنا وأزلام المصالح بوعود الشيطان واتباع خيله ورجله.
فالهجرة حركة القلب في رحاب الله بتبتله المستمر لله وإنابته دائما إلى الله، فلا يسبح في ظلمات الذنوب، بل تسمو النفوس فتسبح في ملكوت الله، فتجد أعوان صدق وأنصار هدى كلا في فلك، لا أفلاكا في فلك العبودية لله يسبحون ويسبحون، فالكل هنا داودي التأثير: «يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد». أما من أخذوا بظاهر حركة الصلاة وظاهر الصيام في ترك المأكل والمشرب، وظاهر الزكاة في نسبة محددة في أموال معينة، وأخذوا بالتمتع أو القِران أو الإفراد في الحج دون أن تهاجر قلوبهم إلى وفي رحاب الله، ودون أن تعيش شعور لذة السجود، وأنه وفود القلب إلى الله، وأن الصلاة معارج الأرواح، وأن الصيام سياحة النفوس، وأن الحج كفر بالطاغوت، وأن الزكاة عطاء شكر ومزيد حمد، وأن الإحسان عطاء مستمر لمسكين عطف ويتيم فهم، ولا أسير فتنة أو أسير هوى، فيأخذ بحنايا نفسه إلى سعة وسمو العيش الكريم والحياة الطيبة، حياة العز بالله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وأن ما حركة الأقدام في الانتقال من مكان إلى مكان ما هي إلا ثمرة من ثمار هجرة القلب في ترك كل ما نهى الله عنه، فتكون حركة البدن بعد ذلك حركة موسي الكليم بلسان حال قد استقر في الوجد البشري والوجدان بقوة الشوق لرضا المولى الجليل: «وعجلت إليك ربي لترضى».
لذا، فسمو فهم الهجرة أوصل سيدنا إبراهيم إلى أن يكون خليل الله، وأوصل كل مخلص لله إلى أن يصفه الله بقوله: «وما بدلوا تبديلا»، بعد أن شهد لهم بالإيمان وخصهم بالرجولة، ووصل أهل الكهف بهجرتهم إلى أن جعلهم الله آية للناس، ودليلا على البعث وحجة على من استكان لظالم أو خضع لمستكبر. وبالهجرة عرفت الأمة جهاد نبيها وعظيم ما بذل. وعرفت الأمة بجهاد الحفيد الإمام الحسين أن هذا الدين حي من الحي، الذائبون عنه والمدافعون عنه أحياء لا يموتون، وأن من أحب أمرا ضحى من أجله، ومن أحب بذل، وأي حب أعظم من حب الودود جل شأنه؟! لذا، فهجرة المحبون مشاعر وشعائر.

أترك تعليقاً

التعليقات