محاريب وخنادق «مع أبينا آدم»
 

محمد الباشق

حلقات يومية يكتبها القاضـي محمد الباشق / لا ميديا -

نتحدث في هذه الحلقة عن النعم التي منحها الله لأبينا آدم. ومن هذه النعم نعمة العلم، إذ علمه الأسماء وأسجد له الملائكة وعاقب عدوه إبليس، كما أنه أدخله الجنة وتكفل له سبحانه وتعالى بتوفير كل ما يريده لحفظ حياته وأمانه النفسي والصحي:  {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}.
هذه العطايا لجسم يؤدي مهام الاستخلاف، فأنجاه من بئس وشر الضجيع ألا وهو الجوع، وأنجاه من علامة البؤس وهي العري، وأنجاه من الظمأ الذي هو مقاربة الهلاك، وأنجاه من أن يتعب بشمس أو نصب أو كد للمعيشة. هذه الضروريات توفيرها نعمة عظمى، فكيف عندما تكون في جنة كل ما فيها مباح؟! فقط المنع من شجرة واحدة. الإباحة واسعة سعة كرم الله سبحانه وتعالى بالنعم والعطايا لسيدنا آدم، لروحه، فروحه نفخة من روح الله، ونفسه زاكية وعقله قد امتلأ بالمعارف، ومكانته عظيمة، فقد جعله الله في موضع تكريم وتبجيل، وعاش سيدنا آدم في دار كرامة الله آمناً من كل نقص، يرفل في أثواب العز منعما بسوابغ النعم ومعه زوجته أمنا حواء. ونسي سيدنا آدم أن هناك عدواً يتربص به ويكيد له ويضمر له الشر ويريد حرمانه من نعم الله. هذا العدو هو الشيطان الرجيم الذي أتى لسيدنا آدم في صورة الناصح الحريص مستخدماً عدداً من وسائل الكذب والزيف والتضليل والافتراء، لكي يوقع آدم في مخالفة النهي، فالأصل في حال عباد الله المخلصين اجتناب النهي البتة دائما لمجرد أنه نهي فقط، فإذا نهى الله عن شيء فليس لنا إلا السمع والطاعة.
إبليس الشيطان الرجيم كان يريد أن تحصل الجرأة من آدم على المخالفة. ولأن سيدنا آدم لا يوجد في نفسه رغبة وإرادة ونية المخالفة والجرأة على عصيان الله، فكر إبليس بإيجاد مداخل ليخدعه بها، فاستخدم أسلوب النصح وأن هدفه الخير لآدم وزوجته. كما استخدم القسم (الحلف) بذل الأيمان المغلظة بأن أكلة واحدة فقط من هذه الشجرة ستمنح آدم وزوجته الخلود والملك الذي لا تؤثر فيها الأزمنة والدهور. وكان أحط وأخبث ما فعله الشيطان إبليس الرجيم هو أنه غرس سوء الظن بالله أثناء وسوسته للأبوين (آدم وحواء) حيث أكد لهما أن المنع من أكل الشجرة ليس لصالحهما، وأن الهدف منه هو لكي لا يكونا ملكين ولكي لا يصلا للخلود، ونسي آدم أن الملائكة قد سجدوا له، وأن الله قد علمه وخلقه بنفحة من روحه ليكون خليفة في الأرض.
لم يطل التردد من الأبوين وزاد خداع إبليس لهما بأن المخالفة فقط أكلة واحدة ويحصل لهما ما وعدهما به إبليس، فقط أكلة واحدة من هذه الشجرة. وبمجرد هذه الأكلة، بل لقمة من هذه الشجرة، حصلت العقوبة وغادرت الثياب جسم آدم وزوجته، فظهرت النواقص البشرية عليهما من ضعف وندم. ويصف القرآن هذه الحالة وكيف أنهما التجآ إلى ورق الشجر المباح لكي يغطيا عورتيهما. وهنا نشير إلى أن إبليس الشيطان الرجيم كان يريد تحقيق أهداف عدة من أكل الشجرة، هدف أن يجعل سوء الظن بالله هو الباعث على أخذ لقمة من الشجرة، وأن يحرم آدم من نعم الله الظاهرة والباطنة، وأن يحرم من شرف الاستخلاف في الأرض، وأن يحبط آدم نفسيا ويتعرى جسديا ليتحول إلى مخلوق خاسر لكل النعم.
الأبوان لم يكن لديهما نية المخالفة سابقا، ولم يكن لديهما تجربة عملية أو مثال مشاهد أو مسموع لتوخي الحذر، رغم أن صراحة الأمر من الله بالنهي كانت تكفي، والتحذير بالقول الحق من ربنا بأن إبليس لهما عدو يكفي. وشفع للأبوين آدم وحواء عليهما السلام أنهما لم يبحثا أبدا عن شماعة أو تبريرات أو ادعاءات أعذار وحجج للمخالفة، بل حصل مباشرة خضوع والتجاء إلى الله، واعترفا أن فقرهما وجوعهما وظمأهما ونصبهما ونكدهما وحرمانهما هو بمفارقة المغفرة والرحمة منه سبحانه وتعالى، وأن مغفرته ورحمته هي المقصد الأعظم والمطلب الدائم والنعمة العظمى والجنة الأوسع والأشمل، وأنه لا قيمة ولا قدر ولا أمان إلا بالحصول على مغفرته ورحمته.
وهنا نتذكر أن إبليس لما عصى أمر السجود لآدم أضمر -منذ تلك اللحظة- الخبث والشر، وأراد أن يشكل معه أجيالا من العصاة، كما أراد أن يكون قائدا للفساد (تطبيقا ومشروعا) ينفذ على الأرض. أما أبونا آدم وأمنا حواء فمباشرة بعد حصول المخالفة ومشاهدة آيات العقوبة المباشرة تحركت في كيانهما مشاعر الحياء والخجل من الله تعالى والانطراح على أعتاب العبودية والشوق لنيل مغفرته والفوز برحمته وأن الضعف حال لازم، وأن الخسارة مصير وحال، والخلاص والنجاة من هذه الخسارة التي لا تعادلها خسارة في الوجود بأن يغفر لهما ويرحمهما خالق المغفرة خالق الرحمة ومالكها، وأن عبوديتهما لله تحتم عليهما الاعتراف بأن عودتهما إلى الله الغفور الرحيم عودة ندم ورجوع وثقة بأن من رجع إلى الله وأناب فإن الله غفور رحيم، فأعطاهما الله أعظم عطاء وهو جبر الخواطر وفتق لسان آدم بكلمات لهج بها، نطق بها، تلفظ بها، قالها بكل ذرة في كيانه، استغفارا لله واعتذارا إليه وإخباتا له وإنابة إليه، بافتقار ظاهر إلى سعة رحمته وعظمة مغفرته، وأن ما أصاب كسره لا جابر له إلا سعة رحمة الله، فقبله الله الغفور الرحيم.
وهنا أقول إن هذا إرث أبينا آدم لنا، أن ننيب ونستغفر، أن نعلق القلوب بالله الذي لا حي سواه، هو مولانا وخالقنا وجابر كسرنا... وللحديث بعونه تعالى بقية.

أترك تعليقاً

التعليقات