محاريب وخنادق «التقوى»
 

محمد الباشق

حلقات يومية يكتبها القاضـي محمـد الباشـق / لا ميديا -

يولد الإنسان من بطن أمه وتظهر صورته والجينات الوراثية التي هي في كيانه أمشاج، أي: خليط من صفات الأبوين، ويرضع فيؤثر لبن الرضاع في بنيته، لذا له أحكام شرعية مرتبطة به من حيث علاقته بالمرضعة وأخته من الرضاع، وكلما كبر نجد أن للبيئة دوراً في بناء هذا الجسد البشري، وكذا المهارات التي يكتسبها في الحياة، من رياضة أو هواية يمارسها كالسباحة أو كمال الأجسام. وتأثير البيئة من حر وبرودة ونوع الغذاء الذي يتناوله والظروف المادية والاجتماعية التي يعيشها، كلها لها تأثير على بناء الجسم والاهتمام بصحته أو العكس. كل ما سبق أمثلة لما يؤثر في بناء الجسم.
ونحن نعيش في رحاب شهر الصيام نبني التقوى في حياتنا، في سلوكنا، بفهم ووعي حقيقة الصيام ودوره في بناء التقوى في حياتنا. ولا يغيب عن أذهان إخواني القراء الكرام أن التقوى من ثمارها وبركاتها أنها لباس، وهذا واضح في القرآن الكريم، حيث وصف الحق جل شأنه: "ولباس التقوى ذلك خير" لباس، ليس فقط على ظاهر البدن، بل لباس تنسج منه ذرات كيان الإنسان للبعث بعد الموت، ويظهر الإنسان المتقي بحلة من الجسم نورانية تكسوها حلل الرضوان وأردية النعيم المقيم. كما أن المجرم -نعوذ بالله- تظهر صورته في شكل بشع يخرجه من المظهر الآدمي البشري إلى مظهر حيواني أو شيطاني. وهذه الحقيقة تظهر لمن يريد أن يفهم ويعي أن كل عمل نعمله في الدنيا من نيات وأقوال وأفعال وسلوكيات، كل ما نقوم به هو بناء لذواتنا، بناء للأنسجة التي يتكون منها ظاهرنا وباطننا، بناء للصورة التي نبعث بها في عرصات القيامة.
ولكي يتضح هذا المعنى أذكر إخواني وأخواتي القراء الكرام بالآية (166) من "سورة الأعراف"، قال سبحانه وتعالى: "فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين". هذه الآية في سياق قصة أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر وكيف أنهم استمروا في ممارسة الحيل للصيد يوم السبت، وصار التحايل والسعي لمخالفة أمر الله حالهم وديدنهم، عتوا عما نهوا عنه، استمروا في رفض منهج الله، صارت صفة القرود من مكر وحيل وعبث وحب لحياة اللهو منسوجة في حياتهم، فذكاء القرود الشديد المرتبط بوجه شبه بينهم وبين الإنسان زد على حياة هؤلاء بالتعاون على صناعة أحواض للتحايل على المنع من الصيد، لذا صارت العقوبة لهم أنهم لم يعودوا كالقرود تشبيها، بل أصبحوا قرودا مسخت صورهم، والعياذ بالله من سخطه، أصبحت صورهم صور القرود، وهذه عقوبتهم التي ماتوا عليها، وصار هذا المسخ عذاب وصفه الله بأنه عذاب بئيس، كما وصف العذاب في القرآن بأنه مهين وأليم وكبير وغليظ وشديد ومقيم وعظيم... وهذا النوع هنا وصف بما هو مشتق من البؤس، خروجهم، انسلاخهم، من الهيئة البشرية إلى شكل وصورة القردة في حالة مزرية مهينة، لذا فكل عامل لأي عمل ومستمر فيه يكتسب من هذا العمل شكلا يتناسب مع هذا العمل. والنص القرآني أيضاً في "سورة الكهف" بأن للأعمال حضوراً: "ووجدوا ما عملوا حاضرا"، وآية كتابة الآثار في "سورة يس".
كل هذه النصوص الكريمة نأخذ منها أن علينا أن نعلم كما جاء في معنى كلام للإمام الخميني (رحمه الله) في شرح أحاديث الأربعين أن آخرتنا تسير معنا من هنا من الدنيا، وأن بناء أجسادنا للبعث يبني وينسج من هنا بالأعمال التي نعملها. لذا علينا أن نستعد للحياة الحقيقية التي كلنا قادم إليها، وأن نتقن هذا البناء، فالعمل الصالح المرفوع إلى الله سبحانه وتعالى، فالكلم الطيب يصعد إلى الله والعمل الصالح يرفعه. الآية في "سورة فاطر"، وآية أيضاً في "سورة يس": "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون"، فالخلق من الأنفس هو خلق الأعمال وليس فقط مسألة خلق الأجنة، فكلامنا لا يذهب في الكون، بل محفوظ في الأرض، كما جاء في "سورة الزلزلة": "تحدث أخبارها"، والجوارح تحتفظ بذاكرة ما صدر منها. تأملوا إخواني الآية: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون" (الآية 65) من "سورة يس"، تأملوا في صيغة تكلمنا الأيدي وصيغة تشهد الأرجل وتأملوا الفرق بين الكلام والشهادة، فلقد كممت الأفواه هنا، وهناك تتكلم الجوارح كلاماً بسعته، وشهادة جوارح بما صدر منها، وتشكل الأجساد والأبدان بالسلوكيات والأعمال داخلا طبعا النيات والأقوال، له برهان في الحياة الدنيا نأخذه مما ورد عن باب مدينة علم سيدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال مولانا الإمام علي عليه السلام وكرم الله وجهه الشريف: "ما أسرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه أو فلتات لسانه"، فالإنسان كتاب مفتوح تعرفه المخلوقات التي تعيش معه من أنعام ودواب وحيوانات وجن وغيرها ممن لا يعلمهم إلا الله، وتظهر عليه حقيقة ما ينوي ويسر. وأيضاً يقول مولانا الإمام علي عليه السلام وكرم الله وجهه: "تعطروا بالاستغفار كي لا تفضحكم روائح المعاصي". وهذه الحقيقة يشاهدها أصحاب الفراسة الإيمانية. صلوات الله وسلامه على سيدنا محمد وآله القائل: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله".
اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يهتك الستر، يا عظيم المن، يا حسن التجاوز، يا باسط النعم، يا غفار... أدخلنا جميعاً في سعة رحمتك.







أترك تعليقاً

التعليقات