مصطفى المغربي

قصيدة الراحل البردوني الذي سبق أن أطلقت عليه لقب (نبي الشعر) في كل ما حوته العديد من قصائده، خاصة قصيدة (يا مصطفى) التي حاول الكثيرون في حينه إسقاطها على بعض الزعامات على نحو فردي وشخصي، وبعض الكتاب أسقطوها على الربيع العربي على نحو خاطئ وغير صحيح، لأسباب تكذبها أبيات عديدة في القصيدة ذاتها، حيث نجد فيها جميعاً نبوءة لحال اليمني في مواجهة العدوان السعودي وحلفائه الذي أطلق على إثر ثورة ٢١ سبتمبر، فإشارة الشاعر للحشد واضحة في القصيدة بقوله: (وليحشدوا أنت تدري أن المخيفين أخوفْ)، بل استهل افتتاحية القصيدة ببيت ناطق يوضح فيها قصف غارات التحالف، وأردفها بشدة الغارات وعنفها، بقوله: (فليقصفوا لست مقصفْ، وليعنفوا أنت أعنفْ)، هذا الصمود اليمني المستمر ضد تحالف العدوان السعودي الصلف في الحقيقة صمود دون زعامات ولا قيادات، وإنما يستمر على يد (مصطفى) المواطن اليمني البسيط والمقموع في عيشه الذي يحاول النظام السعودي وعبيد أمراء النفط من آل الأحمر دوماً النيل من كرامته.
نعم، أجدها في هؤلاء اليمنيين الذين يوارون موتاهم الثرى في صعدة والحديدة وصنعاء وتعز... الخ، نتيجة غارات العدوان، وممن يسقطون شهداء في جبهات العزة والإباء، ثم يتسابقون ببنادقهم الآلية ليأخذوا دورهم في طابور موت العزة والشرف والسؤدد بعد أن ألفوه، حيث يوغل النظام السعودي في دم أطفال ونساء اليمن كلما ضاق عليه الخناق في نجران وجيزان وعسير، ليترجم بكل جلاء فكرة (إن المخيفين أخوف) التي وردت في القصيدة، إذ كلما زاد بطش غارات التحالف في القتل الجماعي للأبرياء، كشفت عن حجم رعب النظام السعودي مرتكب هذه الجرائم.
ولعل نبي الشعر الراحل (البردوني) يكون بهذا من أوائل (الرائين) الذين تنبأوا  مبكراً بقصف غارات الطيران على اليمن، كما فعل ذلك عندما اقتحم وجدان (المواطن اليمني) بصفة المختار (مصطفى) صاحب القميص المنتّف، وهو حال اليمني رث المظهر حافي القدمين في جبهات القتال، وبساطته في عيشه ومعيشته وهلاهله في جبهات عزته وشرفه، هذا هو اليمني المضطهد دوماً بلقمة عيشه فلاحاً أو موظفاً أو عاملاً، تجد مفردات القصيدة الشعرية كيف تضطرم نيران الحرب المؤجلة بين أضلاعه رغم جحافل المخيفين، ليكتبها قبل 30 عاماً تحديداً في 1986م (يا مصطفى) التي أجتزئ منها ليس مقدمة وصف حال العدوان بغارات القصف وعنفها، وحشد تحالفهم على اليمنيين بقوله: (فليقصفوا لستَ مقصفْ.. وليعنفوا أنتَ أعنفْ.. وليحشدوا أنتَ تدري أن المخيفين أخوفْ)، بل وصف الشاعر الكبير (للمعتدي) بكل دقة على نحو تناقضات بين الحال والصفة بقوله: (أغنى ولكنّ أشقى).. فليس هناك أغنى من النظام السعودي بالمال والثروة، ولكنهم أشقياء، حيث جعلوا منها نقمة عليهم وعلى العرب والمسلمين، يهدرونها في خزائن العدو الامريكي والبريطاني بكل بساطة..
(أوهى، ولكنّ أجلفْ... أخسى ولكنّ أصلفْ)، وهذه حقيقة أخرى، فهم من الوهن ما لايوصف، ولكن يحملون أيضاً مع هذا الوهن جلفاً وعتياً وخسة مع صلف، فصلف العدوان واضح؛ يستخدمون المال في شراء الضمائر، ويستعينون بالعدو الأمريكي والصهاينة في قتل اليمنين وتدمير بنيتهم.
(لهم حديدٌ ونارٌ.. وهم من القش أضعفْ)، في هذا البيت يصف نبي الشعر بدقة ترسانة النظام السعودي من مدرعات ودبابات بالحديد والنار، ولكنها في نفس الوقت أضعف من القش، وهو تناقض لايستقيم، ولكنها حقيقة تجلت في هذه الحرب بإحراق الجندي اليمني لهذه الآلة العسكرية وذخيرتها بواسطة (قداحة إشعال السجائر)، بعد هروب الجنود السعوديين وفرارهم منها، لتلتهمها النيران، وهنا تكمن الصورة البلاغية التي تحققت على يد الجندي اليمني في إحراق تلك الآليات الحربية الحديثة (كإشعال كوم من القش بعود من الثقاب)، وبهذا البيت في حد ذاته يكون الشاعر الراحل عبدالله البردوني قد استحق منا لقب (نبي الشعر) بكل جدارة..
(يخشون إن كان موتٌ.. وأنتَ للموتِ أألفْ)، وتتجلى هذه الحقيقة أيضاً في تسليم الجنود السعوديين أنفسهم أسرى بأيدي رجال اليمن، رغم قلة عدد الأخيرين، وتظهر ألفة الموت باقتحام جنود اليمن بأعداد لاتتخطى عدد أصابع اليدين معسكرات وثكنات سعودية يفر منهم مئات الجنود السعوديين بكل بساطة، وهنا يكمن حب الأخيرين للحياة وخشيتهم الموت، وحب وألفة اليمني (مصطفى) للموت.
(لأنهم لهواهم.. وأنتَ بالناس أكلفْ)، لايوجد أشد من ترابط اليمنيين اجتماعياً، بيد أن التفكك الاجتماعي السعودي ملموس بطغيان المادة فيه ووجود الفقر فيه رغم الثروة النفطية التي تتحكم بها الأسرة الحاكمة حسب هواها.
(كفجأة الغيبِ تهمي.. وكالبراكين تزحفْ)، نعم هذا هو اليمني لم يدرك النظام السعودي أنه سيأتي إليه الى عقر داره، وأحاط بمدينة نجران بعد إسقاط كافة المواقع العسكرية المطلة عليها، كالغيب يهمي إليها، متجاوزاً كل تكنولوجيا طيران التجسس والأباتشي، زاحفاً الى هناك كالبراكين دون أن يستطيع شيء إيقافه.
(تنثال عيداً ربيعاً.. تمتد مشتى ومصيفْ 
نزغاً إلى كل جذرٍ.. نبضاً إلى كل معزفْ 
يا مصطفى أيّ سرٍّ.. تحت القميص المنتفْ؟ 
هل أنتَ أرهف لمحاً.. لأن عودك أنحفْ؟ 
أأنتَ أخصب قلباً.. لأن بيتك أعجفْ؟ 
هل أنتَ أرغد حلماً.. لأن محياك أشظفْ؟ 
 من كل نبضٍ تغني.. ويبكون [من سِبّ أهيفْ]).
يصور نبي الشعر الراحل هنا نبض الألم كأغنيات لشحذ الهمم، مقابل من يبكي ترفاً وعشقاً.
كما يؤكد على فقر اليمني وعدم ترفه بقوله:
(فلا وراءك ملهى.. ولا أمامك مصرفْ).
ثم يمضي واصفاً اليمني الذي سيُقتل, لكنه سيأتي أشد عصفاً من آخر القتل، لأن موته أحيا من عمر مليون مترف سعودي، بقوله:
(قد يقتلونك تأتي.. من آخر القتل أعصفْ
لأن موتك أحيا.. من عمر مليون مترفْ  
يا مصطفى يا كتاباً.. من قلب تألفْ
ويا زماناً سيأتي.. يمحو الزمان المزيّفْ).

أترك تعليقاً

التعليقات