هل غيرت سورية مواقفها؟!
 

أحمد رفعت يوسف

أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
كثرت الأسئلة، خلال الفترة الماضية، حول موقف سورية وتموضعها بالنسبة للصراع مع العدو الصهيوني، وأسهبت وسائل إعلام عالمية وعربية، وخاصة إعلام التطبيع، في الترويج بأن سورية بصدد تغيير استراتيجي في مواقفها، وذهب بعضها للحديث عن قرب إعلان الرئيس بشار الأسد الخروج من محور المقاومة والتخلي عن المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وترك إيران بعد 45 عاما من التحالف الوثيق معها، والانتقال إلى معسكر التطبيع.
وتوقع هؤلاء أن تكون قمة الرياض للدول العربية والإسلامية المكان المناسب لإعلان الرئيس الأسد مواقفه هذه، وإن كان بشكل غير مباشر، خاصة وأن الرياض هي المكان الأنسب لهذا الإعلان؛ كونها تقود محور التطبيع العربي، ومناسبة القمة هي التوقيت المثالي لهذا الإعلان، أمام القادة العرب والمسلمين.
أما وقد جاءت القمة، وألقى الرئيس الأسد كلمته، فأقل ما يقال في توصيف ما أعلنه من مواقف أنها أسقطت أوهام الحالمين بتغيير الموقف السوري، وأخرست ألسنتهم، وبدؤوا يبحثون عن موضوع آخر لتناول سورية من خلاله.
لسنا هنا بصدد الدفاع عن موقف سورية، لأنها ليست بحاجة للدفاع عنها، وإنما لا بد من توضيح بعض المواقف، والإضاءة على كواليس السياسة والدبلوماسية السورية، وفك بعض ألغازها، والتي أثبتت نجاعتها في بحر متلاطم الأمواج من الأحداث منذ أكثر من ثلاثة عقود، وخاصة منذ "طوفان الأقصى"، وهي الأحداث التي ستحدد مصير المنطقة والعالم.
بالتأكيد، لا أحد ينكر صعوبة الأوضاع وخطورتها على سورية، وخاصة منذ بداية العدوان على لبنان قبل شهرين، وقيادة السفينة في هذا البحر تحتاج إلى حكمة وعقل بارد، وليس لمواقف متهورة واستعراض عضلات، وما قد يؤدي إلى غرقها وهلاك من فيها.
كما لا يمكن تجاهل أن سورية تتعرض لاحتلال من أمريكا وتركيا، إضافة إلى الكيان الصهيوني، ومن تواجد مجموعات إرهابية وانفصالية في العديد من المناطق السورية.
لكن موقف سورية من صراعها مع العدو الصهيوني محكوم بقواعد لا يمكن تجاوزها، فهي الدولة العربية الوحيدة التي يعتبر صراعها مع العدو "صراع وجود وليس صراع حدود"، وهو قائم على معادلة تقول: "إما أن تموت سورية لتحيا "إسرائيل" وإما أن تموت "إسرائيل" وتحيا سورية". ولذلك لا يمكن للموقف السوري أن يقبل التطبيع، ولا تمتلك ترف تبديل المواقف ولا تغيير البوصلة.
وفق هذه القواعد، جاءت كلمة الرئيس الأسد في قمة الرياض لتضع النقاط على الحروف، وتؤكد ثوابت السياسة السورية، واستخدم كلمات وتعابير يمكن اعتبارها الموقف الرسمي لكامل محور المقاومة، وليس فقط سورية.
فالرئيس الأسد وصف الكيان، قادة ومستوطنين، بالهمجيين والبعيدين عن القيم الإنسانية وعديمي الأخلاق والسفاحين، واستعرض محاولات العرب للسلام، وبمشاركة سورية، ومنها "مؤتمر مدريد للسلام" و"المفاوضات السورية - الإسرائيلية"، في الولايات المتحدة، وأكد عبثية الرهان على السلام مع الكيان "الإسرائيلي".
كما أكد أهمية ودور المقاومة في التصدي للعدو الصهيوني، وعظم شهادة قيادتها، ووصفهم بما يستحقون من تكريم، ودعا القادة العرب والمسلمين إلى ضرورة الخروج من دائرة الأقوال والبيانات والتنديد، إلى دائرة الفعل والعمل والمواقف المؤثرة.
كلام الرئيس الأسد في الرياض لا يمكن وصفه بالجديد، وهو أكده سابقاً في كلمته بعد انتخابات قيادة حزب البعث، وفي كلمته التي وجهها بمناسبة يوم الجيش السوري، وفي رسالة التعزية التي أرسلها لأسرة الشهيد حسن نصر الله؛ لكن إعلانه من الرياض، عاصمة محور التطبيع، والتي وصف إعلامها، قبل فترة قصيرة، المقاومة بالإرهابيين، يعطيه أهمية خاصة، وفيه رسالة للجميع، موالاة ومعارضة، وللأعداء والأصدقاء، بأن سورية موجودة، وهي قلب وعماد محور المقاومة، ومن ظن أن (بعض) الصمت السوري (المدروس) هو انتظار لتغيير مواقفها فليس سوى أوهام عند من يتحدث بذلك.
أما السؤال الذي يقوله إعلام التطبيع: لماذا سورية لا ترد على الاعتداءات "الإسرائيلية"؟ فهو تساؤل ساذج ومغرض، لأن سورية أكثر من يرد على الكيان الصهيوني، والرد لم يكن له يوماً أسلوب وطريقة واحدة، كما أنه ليس من الحكمة الانجرار إلى معركة يحدد العدو طبيعتها وزمانها ومكانها، وإنما في كيفية ضرب هذا العدو وإيلامه وهز أركان، فكل سلاح المقاومتين اللبنانية والفلسطينية مصدره إما من مصانع ومخازن الجيش السوري وإما يمر بأراضيها. كما أن سورية تؤمِّن عمقاً وظهيراً استراتيجياً للمقاومة، خاصة اللبنانية، بحكم الجغرافيا. وفي هذا فإن سورية تضرب الكيان على دماغه، ويومياً، والاعتداءات "الإسرائيلية" ليست سوى الرد على الموقف السوري، وأي تغيير في نوعية الرد مرهون بتطورات المعركة، ولا نذيع سراً إذا قلنا بأن غرفة العمليات المشتركة للمقاومة، التي تراقب الميدان وتدرس المجريات وتقرر وتنفذ، تدرك طبيعة المواجهة مع العدو، وهي التي تحدد موقف ودور كل طرف من أطراف محور المقاومة.
وللتأكيد على ذلك، ظهرت مواقف عديدة من القادة السياسيين العسكريين في الكيان الصهيوني، وخاصة منذ العدوان على لبنان، حول قوة وتأثير الموقف السوري، وأن الميدان السوري هو الأخطر على كيانهم. ولهذه الغاية، أرسلت حكومة نتنياهو وزيرة الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، إلى موسكو، لمحاولة إقناع الروس بالضغط على سورية لوقف دعمها للمقاومة ووقف إمدادها عبر أراضيها، وعادت من هناك خائبة.
أما من يتحدث عن فك الارتباط بين دمشق طهران، فمن السذاجة التفكير بأن تستبدل سورية بتحالف وصداقة أثبتت فعاليتها ومصداقيتها على مدى 45 عاما، أطرافاً لا يمكن الثقة بمواقفهم لمدة 45 دقيقة.
وفي المواقف السياسية الدبلوماسية فإن سورية هي صاحبة مدرسة "المناورة على حافة الهاوية"، وهي تحاول الاستفادة من موقعها الجيوسياسي الهام في قلب أهم منطقة في العالم، والتي تعتبر مؤشر صعود وانهيار الإمبراطورية والدول العظمى، والتي أثبتت نجاحها إلى درجة مدهشة.
ظهر ذلك بشكل جلي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وخسارة سورية لأهم حليف دولي لها، وحينها توقع الجميع أن سورية ستلاقي نفس مصير دول أوروبا الشرقية، ويومها دخل الرئيس الراحل حافظ الأسد في حوار سياسي مع الولايات المتحدة استغرق أكثر من عشر سنوات، حتى تمكن من تجاوز الخلل الذي حدث في التوازنات الإقليمية والدولية، وانتهت بلقاء القمة الذي جمعه مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، في 26 آذار/ مارس من العام 2000، ويومها قال الرئيس الأسد الأب كلمته المشهورة: "لن أوقّع"، ولا يمكن تفسير بعض الصمت السوري اليوم إلا وفق هذه المدرسة.
كل ذلك يؤكد أن سورية لا يمكن أن تغير مواقفها، فهي ستبقى عمود محور المقاومة، وعلاقاتها بإيران استراتيجية، وصراعها مع العدو "الإسرائيلي" مستمر. وإنّ غداً لناظره قريب.

أترك تعليقاً

التعليقات