التغيير الجذري من منظور اقتصادي اجتماعي
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
«الدولة» في «الجمهورية اليمنية» القائمة من عام 1990م استبدادية في طبيعتها التنظيمية والقانونية، نُظم من الاستبداد اقتصادية سياسية ثقافية، تقاوم أي تغير عادل: ثوري، توافقي، ديمقراطي.
استبدادية الدولة ورجعيتها، تكمن في كونها تخدم النخب الاحتكارية المُسيطرة، وفي كونها تُبقي على علاقات الإنتاج الظالمة، واللامساواة الاجتماعية، ومع طبيعتها هذه لا يُجدي التغيير الشكلي، أي تغيير الرجال والشخصيات الحاكمة، فلو افترضنا أنه تم تغيير رؤساء السلطات القائمة، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس القضاء ورئيس مجلس الشورى ونوابهم، والوزراء، ومحافظي المُحافظات، فإن هذا لن يعني شيئاً، قد يكون هناك سمات فردية بين شخصية وأخرى مع فروق طفيفة في أدائها إلا أن المُشكلة لم تكن يوماً بشخصية الحاكم، بل في النظم الحاكمة.
هذا لا يعني أن التغيير في الشخصيات غير ضروري بل هو مهم، وضروراته تبرز من ناحية إدارية، فهي إجراءات شكلية إلا أنها ناقصة بدون التغيير في الجوهر.
علاقات الإنتاج السائدة والنظم الحاكمة، هي ما يجب أن يتغير، وهي لم تتغير منذ قيام اليمن الموحدة، بل ورثت دولة الوحدة إرث «اليمن العربية» بعد حرب صيف 94 الظالمة وقضت على المكتسبات الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي أنجزتها ثورة 14 أكتوبر المجيدة.
لم تتغير النواحي الجوهرية، في الجمهورية اليمنية، أما الحكومات فقد تغيرت طوال الفترة الماضية، فمن عام 1990 حتى عام 2016م تشكلت 13 حكومة في الجمهورية اليمنية (مع تجاهلنا ثلاث حكومات تابعة للسعودية من 2015م حتى2021م)، ومن حكومة إلى أخرى لم يَظهر هناك تغير في القضايا الجوهرية، لم تتغير الطبيعة الاستبدادية للدولة اليمنية ولم تتغير علاقات الإنتاج الاجتماعية الظالمة، أي لم يحدث تغيير جذري.
أولاً: التغيير في علاقات الإنتاج:
جوهر الأزمة الاقتصادية التاريخية والراهنة في صنعاء -وفي عدن أيضاً- التي انعكست عنها الكوارث الاجتماعية، هي محدودية الإنتاج، لا يكاد يذكر إنتاجنا في مقابل ما نستهلكه، الإنتاج المادي والمعرفي في آن، محدودية الإنتاج وضيق قاعدة الإنتاج هي الأزمة التي عانت منها اليمن بتوجهها الاشتراكي في الجنوب، وبتوجهها الرأسمالي في الشمال، فيما الإنتاج هو صلب الاقتصاد أكان رأسمالياً أم اشتراكياً.
بعد الوحدة ورثت الدولة الجديدة الوضع القديم، بل تسارع تراجع معدلات الإنتاج مع تطبيق شروط البنك الدولي من بعد 94م ، ضمن برامج «التكيف الهيكلي»؛ فقد تراجعت حصة قطاع الزراعة والصيد من إجمالي الناتج المحلي من 24.2% في العام 1990م حتى 16.1% في العام 2014م، كما تراجع قطاع الصناعة التحويلية من 13.5% في العام 1990م إلى 6% في العام 2014م.
اليوم من غير العلمية الحديث عن حل الأزمة الاقتصادية  والتغيير الجذري والاكتفاء الذاتي وغيرها من الشعارات التقدمية، بدون انتاج صناعي وزراعي بما في ذلك تصنيع السمك والثروة الحيوانية.
جدير بالذكر أن النفط (المتوقف تصديره والذي قد تعود اليمن لتصديره مجدداً) ليس إنتاجاً بل هو ريع، يذهب في الاستهلاك والمضاربات المالية والعقارات، ناهيك عن تهريبه الى البنوك الأجنبية، وبخلاف تراجع الإنتاج السلعي نجد أن النمو في القطاع النفطي ارتفع من 10.5% في العام 1990م إلى 14% في العام 2010م، ثم انتكس إلى 11% عام 2014م بسبب الأوضاع الأمنية، وهو إنتاج يحفزه الاستهلاك الأجنبي، وينهب كمواد خام، ولا يتعلق بالتنمية المحلية ولم ينعكس على تحسين معيشة الشعب اليمني، وينطبق على الغاز ما ينطبق على النفط.
التغيرات الجذرية، كمفهوم في علم الاجتماع أو في علوم السياسة، تشير إلى تلك التغيرات العميقة في البنية الاقتصادية الاجتماعية التي تجلب الحرية للوطن والسعادة للشعب، تغيرات في الوجود المادي وفي علاقات الإنتاج.
فهناك حاجة إلى الارتقاء بالعلاقة بين الطبقات الاجتماعية في عملية الإنتاج وإزالة طابع الاستغلال عنها، وهذه العلاقات الإنتاجية هي قائمة على أساس وجود مادي، وبدون تغيير هذا الوجود المادي لا يمكن الارتقاء بالعلاقات الإنتاجية الاجتماعية.
يتحدد هذا الوجود المادي بـ: وسيلة الإنتاج، ورأس المال، وقوة العمل (العامل المنتج/ الموظف).
التغيرات في هذا الوجود هي ما تغير في علاقات الإنتاج، إذ يؤلف مجموع هذه العلاقات الإنتاجية البنية الاقتصادية للمجتمع، البنية التي تعطي الخيرات وتؤمن معيشة الشعب وتقدم البلد.
ومن الملاحظ طوال تاريخ الجمهورية اليمنية أن السلطة الحاكمة لم تتجه نحو التغيير الجوهري على هذا المستوى، التغيير في الوجود الاجتماعي الذي بدوره يغير في العلاقات الاجتماعية، ويرتقي بها على نحو عادل.
هذا التغيير يتطلب تحجيم المُلكية الاحتكارية، وتحديث البُنية التحتية، ودعم المُلكية العامة والمختلطة، بما في ذلك دعم وحماية ملكية «البرجوازية الصغيرة»، بوسائل الإنتاج، ورؤوس الأموال، وتحسين معيشة الشعب بمختلف شرائحه العاملة.
وإذا ما بسطنا هذه المفاهيم فنحن بحاجة إلى:
• تحويل المُزارع الذي يلهث خلف الثور أو الحمار، إلى رجل علم يستخدم في الزراعة أحدث التقنيات العلمية وإلى عامل زراعي يستخدم وسائل الحرث والرش والحصاد الحديثة.
• تحويل الفلاح من مستأجر إلى مالك للأرض.
• تحويل العامل من آلة وأداة يأكل ويشرب لكي يعود للعمل لدى القطاع الخاص أو العام، إلى إنسان يملك وقتاً ومالاً فائضاً للثقافة والفن والرياضة والدين والأسرة.

التغيير يتطلب تحجيم المُلكية الاحتكارية، وتحديث البُنية التحتية، ودعم المُلكية العامة والمختلطة، بما في ذلك دعم وحماية ملكية «البرجوازية الصغيرة»، بوسائل الإنتاج، ورؤوس الأموال، وتحسين معيشة الشعب بمختلف شرائحه العاملة.
وإذا ما بسطنا هذه المفاهيم فنحن بحاجة إلى:
• تحويل المُزارع الذي يلهث خلف الثور أو الحمار، إلى رجل علم يستخدم في الزراعة أحدث التقنيات العلمية وإلى عامل زراعي يستخدم وسائل الحرث والرش والحصاد الحديثة.
• تحويل الفلاح من مستأجر إلى مالك للأرض.
• تحويل العامل من آلة وأداة يأكل ويشرب لكي يعود للعمل لدى القطاع الخاص أو العام، إلى إنسان يملك وقتاً ومالاً فائضاً للثقافة والفن والرياضة والدين والأسرة.
• تحويل المتسول إلى منتج.
• تحويل مراكز الشعوذة إلى عيادات طبية.
• تحويل الصياد من كادح بوسائل صيد تقليدية يبيع بالبخس ما يصطاد ويثرى من جهد عمله التجار، إلى مالك لثمار إنتاجه ويعود الربح له، يصطاد بالتقنية الحديثة.
• تحويل العمل الفردي المشتت في الصناعة والزراعة والصيد وتربية الحيوانات إلى عمل تعاوني جماعي.
• تحويل الموظف من متلق للأوامر في المنشأة المعينة، إلى مسهم في صنع السياسات التي سينفذها.
على أساس هذه التغيرات في الوجود المادي وفي علاقات الإنتاج، سوف تتطور العلاقات الحقوقية الدستورية بين المواطن والدولة وبين المواطنين في ما بينهم، بتحويلها من علاقة بين السلطة والمشايخ ورجال الدين، الذين يعملون كوسطاء بين «الرعية» والدولة، إلى علاقات بين الدولة والمواطن مباشرة على قاعدة المساواة الدستورية، أيا كان معتقد المواطن وقبيلته وأسرته وحزبه ومنطقته وجنسه.
على أساس هذه التغيرات في الوجود المادي والارتقاء في علاقات الإنتاج، سيكون من الممكن التغيير في البُنية التنظيمية والتشريعية للدولة وتغيير طبيعتها الاستبدادية، نحو دولة شعبية ديمقراطية عادلة، وذلك أن طبيعة الدولة الاستبدادية الراهنة والقائمة تاريخياً إنما تعكس طبيعة هذا الوجود الاجتماعي وتعكس العلاقات الإنتاجية الظالمة والاستغلالية.
ثانياً: تغيير طبيعة الدولة الاستبدادية:
النظم أقوى من الشخصيات، باعتبار أن النظم  إنما هي انعكاس لعلاقات الإنتاج السائدة عموماً، فنحن بحاجة إلى أن تتغير البُنية التنظيمية للدولة القائمة على المركزية المُفرطة وعلى الأوامر شبه العسكرية، وعلى تراتبية طبقية قائمة على الاستبداد والاستغلال من الأعلى إلى الأدنى، وعلى حق التصرف بالمال العام والتصرف بالمواطن، تراتبية تجعل الموظف الصغير شبه مُستعبد من الموظف الأكبر، وتجعل المواطن، الضحية باعتباره الحلقة الأضعف في ظل هذه التراتبية القهرية، التي تدعمها تشريعات قانونية ولوائح وتقاليد وأعراف وظيفية ووعي اجتماعي «أحمر عين، قبل اليد التي لا تستطيع كسرها، كن ذئباً،  قل للكلب سيدي».. الخ المقولات التي تعكس ظلم الحياة الاجتماعية.
تغير هذه البُنية التنظيمية نحو، بُنية تنظيمية أخرى قائمة على الحكم الذاتي في المسائل غير السيادية، وعلى الإدارة لا القيادة، وعلى علاقة التعاون والشراكة في المؤسسة لا الأمر والنهي والقسر، وعلى الشفافية، وحرية الصحافة كسلطة رابعة، مع إزالة مختلف التشريعات التي أُعدت لتحمي الفساد والتي تعلن صراحة حماية شاغلي المناصب العليا، والتي تكبل عمل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، والمحاصصة التي تكبل اللجنة الوطنية العليا لمكافحة الفساد.
كما يتطلب إتاحة الحصول على المعلومة -إلا ما استثناها القانون- والبحث والنقد والمعارضة الملتزمة، ويتطلب قدرا أكبر من الحريات الفردية للرجال والنساء معاً، ويتطلب أمنا قويا مهنيا وقضاء مستقلا شفافا، وتغيرا في السياسة الخارجية وتنويعا في العلاقات الدولية، ويتطلب المواطنة وتكافؤ الفرص، ويتطلب تطوير المناهج العلمية، فشعار «الاكتفاء الذاتي» بدون تغيرات عميقة في الحياة الاجتماعية السياسية في البلد، لن يتحقق.
مثل هذا التغيير في بُنية الدولة، من المؤكد أنه سيفجر أزمات سياسية وسيواجه بممانعة، لكنه سيكون ممكناً وسيلقى دعماً حين تُكتسب شرعية التغيير من الأدنى إلى الأعلى، أي بالنزول إلى أسفل وطلب عون العامل والفلاح والصياد والطالب والموظف والجندي وغيرهم، فمجمل نشاطهم وعلاقتهم بالمؤسسات ووسائل الإنتاج هو ما يخلق هذه النظم، يتطلب معونة الشعب العامل -والعاطل- ونقاباته واتحاداته، كل يغير في حقل الممارسة التي يعمل فيها يوميا فيطورها، فلا يمكن مكافحة الفساد ورفع جودة العمل والإنجاز بدون تعاون الموظف، ولا يمكن رفع الإنتاج بدون تعاون المُنتج، ولا يمكن تطوير الخدمات كذلك بقرار فوقي دون تعاون القائم بالخدمة.
ختاماً:
عملية التغيير هذه، ببعديها التغيير في الوجود المادي وعلاقات الإنتاج أي في البناء التحتي، وفي البنية التنظيمية والتشريعية للدولة، أي في البناء الفوقي، عملية متشابكة وتحدث في آن، فلا يجب انتظار الانتهاء من تغيير الوجود المادي وعلاقات الإنتاج ثم البدء بتغيير طبيعة الدولة، بل يَجب الاستفادة من الاستقلالية السياسية النسبية والدفع نحو تغييرات تنظيمية وتشريعية سابقة لتغييرات في الوجود الاجتماعي وعلاقات الإنتاج، وهي عملية جدلية في كل حال.
بتغييرات كهذه يمكن القول بأن ثورة 21 سبتمبر -التي صمدت في الدفاع عن الوطن- تتجه نحو إنجازات اجتماعية اقتصادية، تمس حياة المواطن وتلبي الاحتياجات التي دفعته إلى الخروج بالاحتجاجات الشعبية الثورية في العام 2014م.

أترك تعليقاً

التعليقات