أنس القاضي

تبرز القيم الدينية والطقوس الروحية والشخصيات المُقدسة، كمتطلب اجتماعي تُشبع حاجة مُعينة في تطور المجتمعات، والنشوة الروحية رغم انتمائها إلى عالم السماء، إلا أن جذورها تكمن في واقع الحياة الاجتماعية الملموسة، كما أن انعكاساتها دنيوية مادية. 
لاحتفالات المولد النبوي أبعاد ثورية عميقة الأثر في الأوساط الاجتماعية الإسلامية، مُتعلقة بطبيعة الشخصية المُحتفل بها، وبالأوضاع والحاجات الاجتماعية الثورية لهذه الأوساط التي تقوم بهذه الطقوس الاحتفالية، ومن هُنا مثلت هذه الاحتفالات بالأعياد النبوية خطراً على المُستبدين، فكان التوجه إما لإفراغ هذه الاحتفالات من مضمونها الثوري لتبقى فقط كطقوس، أو محاربتها تماماً، فحتى الطقوس المُفرغة من المضامين الثورية تظل تُذكِّر المجتمع بهذه الشخصية. 
منشأ الأبعاد الثورية لاحتفالات المولد، متعلقة برابطة جوانبها روحية مادية لا انفصام لهما، وإن كان الجانب الروحي هو الأكبر والمؤثر الأبرز، في تفاعله مع الواقع الاجتماعي المُعاش، ونحن هنا حين نتحدث عن هذه الأبعاد الثورية لاحتفالات المولد، وسر محاربتها واختفائها، سنقصرها على المرحلة والتشكيلة الرأسمالية من بعد تأسيس الدول الوطنية وظهور النظم الديمقراطية. 
في هذه المرحلة الجديدة أصبح هناك تناقض ما بين الحُكام المستبدين، خاصة في الأنظمة العسكرية والأسرية المعادية للديموقراطية، وبين الرسل عليهم السلام، وأكثر هؤلاء الرسل حضوراً هو المصطفى محمد عليه وآله الصلاة والسلام، فبقاء هذا الجانب الروحي الذي يُشرق من نور رسول الله، القادر على حشد الملايين سنوياً من مختلف الطبقات الاجتماعية، وغالبيتهم من الطبقات الشعبية الكادحة، هذا الحشد السنوي يُعد لقاءً جبهوياً واسعاً مُزاحماً لشخصية الحاكم الفرد الذي تملأ صوره مرافق الدولة والمنازل الخاصة، واسمه وكلماته تتردد في مختلف أجهزة الدعاية الأيديولوجية التي تُكرس أُحادية الحاكم الفرد، فاستشعار الجماهير في لقاءاتهم هذه، وحدتهم الشعبية، وتذوقهم حلاوة الحضور الروحي، وما يُسمى في علم النفس العدوى النفسية الاجتماعية والمحاكاة، هذا الأمر يُصغر في أعين المحتفلين بالمولد ألوهية الحاكم المُدعاة وقوته وقدرته الاستبدادية الطاغوتية، خاصة إذا ما تناولت الخطابات والأناشيد والأغاني والمسرحيات في هذهِ المناسبة، مضامين نصرة المُستضعفين في سيرة الرسول الأعظم، وقبسات من سيرته الجهادية، ومفهوم العبودية لله وتنزيهه ومقام المصطفى وتوليه، والتأكيد الصوفي عليه كحاضر مع الناس، ويبرز هذا التأكيد في قراءة الفاتحة بالقول: (إلى حضرة رسول الله)، وهذا الحضور له إشارات في أذكار الصلاة: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). 
في الجانب الآخر، فسيطرة البرجوازية اللاهثة وراء الربح السريع، والتي تعيش على خلق الحاجات الاستهلاكية لدى المجتمع، هذه الطبقة الاجتماعية الطُّفيلية، في حالة تناقض طبقي مع الخطاب الديني، بما يُمثله الدين من دعوة للتقشف، لا اللهث وراء الموضة والاستهلاك السلعي، وبما يدعو إليه من الشراكة والإنفاق والإحسان، لا الاحتكار والاكتناز، وبما يدعو إليه من الالتزام بالقيم الأخلاقية السوية، هذه القيم الأخلاقية التي تتناقض مع مبدأ الربح الرأسمالي، ومع مساعي البرجوازية إلى بيع السلع والمنتجات التي فيها جوانب إفساد أخلاقي أو العبث واللهو... الخ. وهنا نتلمس حقيقة أن الشخصيات المالية التي تنتمي الى الجيل القديم، كانت في تركيبتها النفسية فيها شيء من التدين وحب الفقراء والمساكين والالتزام الأخلاقي في توريد السلع والمنتجات والخدمات، أما البرجوازية الجديدة الطُّفيلية منها، خاصة الناشئة فجأة بدعم السُّلطة المرتبطة بشكل رئيسي بالرأسمال الأجنبي، فهذه البرجوازية في حالة تناقض دائم مع القيم الأخلاقية السوية، وبالتالي مع كل انشداد نفسي إلى الأنبياء والرسل والحكماء، وهي أيضاً ضد كل اجتماع شعبي يوحد القوى الشعبية، ويُعيشهم نوعاً من الانسجام الروحي، وفي هذه المسألة يتوحد موقف البرجوازية مع موقف الحاكم المُستبد، فكلاهما لا يُريدان قيمة أعلى من قيمة المال والسُّلطان.
ملاحظة: هجومنا هنا على البرجوازية لا يعني دعوتنا إلى إلغاء الملكية الخاصة، وإنما يقصد رفضنا للفئات البرجوازية الطُّفيلية، مع تأكيدنا على أن المرحلة القادمة في اقتصادنا اليمني يجب أن تقوم على التحديث الاقتصادي البرجوازي الإنتاجي، وحماية الملكية الخاصة والمنافسة المنضبطة دستورياً، واحتكار الدولة للمشاريع الاقتصادية الكبيرة.  

أترك تعليقاً

التعليقات