أنس القاضي

أنــس القاضــي / لا ميديا -

إن تسمية رؤية بناء الدولة اليمنية بالرؤية الوطنية هي شجاعة وطموح في نفس الوقت، كما أنها التزام من القيادة السياسية للشعب اليمني ككل، إلا أن هذه الرؤية الغنية بمضامين النهوض والسيادة والتطور، يشوبها شيء من العَور والنقص في مسألة الهوية؛ هوية الدولة وثقافة الدولة، وكما هو مفترض فإن هذه الرؤية في مسألة الهوية والثقافة تستوعب كل اليمنيين وكل التاريخ اليمني المعيني السبئي الحميري العربي الإسلامي، ثم الوطني الديمقراطي في الزمن الراهن، إلّا أن الرؤية تُشدد على الهوية الإسلامية، وتتجاهل الهوية الحضارية، أو تشير إليها على الهامش، وتوظفها بما يخدم الإسلامي، على سبيل المثال جاء في الرؤية: «الحفاظ على وحدة الهوية التاريخية الحضارية العربية الإسلامية للشعب اليمني، وما تمثله اليمن عبر التاريخ، وذلك عبر التوعية بالدور الذي لعبه تجار وعلماء اليمن في نشر الإسلام».
إن الهوية الحضارية للدولة هي الأساس، فيما الهوية الإسلامية هي هوية المجتمع والشعب اليمني، وهي الهوية التي تمسك بها وعبر عنها بمقاومته للوهابية وبالاحتفالات بالمولد النبوي بدون الحاجة إلى دعم الدولة، بل إن سلطة الدولة كانت طوال الفترة الماضية داعمة للتوجه الوهابي المعادي للنهج الإسلامي الصحيح، وهذه الهوية الإسلامية هامة تربط بها بالنسبة للمجتمع اليمني السياسة الدفاعية الجهادية الوطنية، وترتبط بها مسألة الثورة ومواجهة الطغاة والمستكبرين، وأنا لا أنتقص منها، بل من المهم تعزيزها وتجذيرها على أسس سليمة بعيداً عن الوهابية، ومن المهم استيعاب وتطوير كل ما في التراث الإسلامي من صفحات مشرقة، ومن مضامين الدعوة الى الحق والعدل والثورة ومواجهة الطغاة والحث على العلم والعمل.
ليست مسودة الرؤية فقط من تتجاهل البعد الحضاري اليمن، بل وحتى مقرر التربية الوطنية الجديد المقرر على الجامعات اليمنية يخلو من الحديث عن هذه الحضارة، إلا من الإشارات القرآنية في الحديث عن سبأ، فيما كان بحاجة إلى تناول البعد الحضاري اليمني من منظور التاريخ وعلماء الآثار.
ما أغفلته الرؤية الوطنية هي الهوية الحضارية السبئية الحميرية، وهي الهوية الحضارية المميزة للشعب اليمني، ورمز هذه الهوية هو الخَط المُسند، ويُمكن القول بأن الشعار الملكي للمملكة المتوكلية اليمنية أكثر تقدمية من الطائر الجمهوري الحالي، ومن الهوية الواردة في الرؤية الوطنية، فشعار المملكة المتوكلية يرمز بوضوح إلى الهوية الحضارية بحرف المُسند، حيث اعتمد فيه حرف الضاد برسم المسند الذي يشبه رقم 8 باللغة الإنجليزية، إلى جانبه حرف الضاد باللغة العربية، وحين قامت الجمهورية تم أخذ شِعار البن وسد مأرب من شِعار الدولة اليمنية المتوكلية، وإهمال حرف الضاد بالمسند والعربي. 
كان لا بد من الإشارة إلى هذا التاريخ اليمني العريض، والعمل على إظهاره والاعتزاز به، واعتماد خط المُسند كأحد خطوط الدولة، وكذلك اعتماد اللغة الأمهرية كإحدى لغات ولهجات الدولة اليمنية، وكذا إعادة الاعتبار الى التقويم الحميري، وخاصة التقويم المرتبط بالمواسم الزراعية في اليمن، والسعي نحو التنقيب عن الآثار وصيانة ما تدمر منها، والمطالبة بما تم نهبه من آثار اليمن، فهناك حاجة موضوعية إلى أخذ هذه القضية بجدية، لأنها قضية وطنية وجزء من هوية الدولة والشعب اليمني، وعلى هامش هذا الاهتمام الجدي تسقط دعاوى ما تُسمى القومية اليمنية «أقيال». فدعوى القومية اليمنية عصبوية ضيقة تخدم تياراً سياسياً (عفاشياً إخوانياً عدوانياً)، فيما الدعوة الصحيحة هي إلى الأمة اليمنية التي تضم الى القحطانيين والعدنانيين، الأفارقة والهنود والكُرد والفرس، وهذه الأعراق موجودة في اليمن، وإضافة إليهم كل من يحمل الجنسية اليمنية أياً كان عرقه وأصله. 
إنه لمن الضروري أن تكون هناك جدية في أخذ هذه المسألة، فإذا كانت السلطات السابقة تهمل التاريخ الإسلامي اليمني، وخاصة تاريخ الأئمة الزيدية، وأدوارهم الوطنية والوحدوية، وإسهاماتهم الفكرية في التاريخ اليمني، ومثلهم الصوفيون والإسماعيليون المغبونون أيضاً، فلا يجدر بهذه السلطة الجديدة أن تركز على هذا التاريخ الإسلامي، وتترك وتتجاهل التاريخ الحضاري، فالمسألة تُحل على أساس التكامل والإغناء، وليس هناك أي تصادم بين تاريخ اليمن الحضاري وتاريخه الإسلامي، بل إن الإسلامي جاء على أساس الإرث الحضاري، والشهادة المحمدية بالإيمان اليماني والحكمة اليمانية جاءت لأن اليمن دولة حضارة في تاريخها القديم، فحين عبد اليمنيون الشمس كانت عبادتهم لشيء مجرد متسامٍ، لا لصنم مجسد مصنوع بالأيدي، وحين جاءت الديانات السماوية اليهودية والمسيحية، كانت اليمن أرضاً خصبةً لتقبلها وانتشارها كديانات توحيدية، وحين جاء الإسلام كان الشعب اليمني ذو الحضارة، هو الأكثر مقدرة من بدو الصحراء على إدراك قيمة المضامين الإنسانية الحضارية للدين الإسلامي. 
رغم تجاهل الهوية الحضارية، إلَّا أن الرؤية أكدت المسألة الأهم، وهي «صناعة استراتيجية وطنية جامعة ترسخ الهوية الوطنية الواحدة والشاملة، وتحقق متطلباتها». إلا أن صناعة هذه الهوية الوطنية الجامعة لا يمكن تحقيقها بدون إعادة الاعتبار للهوية الحضارية السبئية الحميرية.

أترك تعليقاً

التعليقات