أنس القاضي

أنس القاضي / #لا_ميديا -

قلنا في الجزء الأول من هذا المقال إن من المستبعد أن يكون هناك مخاطر في أن تتحول الهوية الإيمانية إلى عصبية ضيقة كدعوة «الأقيال»، حيث إن الهوية الإيمانية كما حددها السيد القائد هي هوية مرتبطة بالكيان الداخلي للإنسان وقناعاته ودوافعه، وليست هوية خارجية مضافة إليه يستدعيها سياسيا ويتمايز بها عن الآخر من منطق سمات ظاهرية كالعرق واللون.
المجتمع اليمني المسلم في المناطق الوطنية بدأت تتغير لديه التصورات الوهابية عن الإسلام، وهو يعزز هويته الإيمانية مع تراكم هذه التغيرات. شهادة ذلك التفاعل الصادق وهو الأكبر مع مناسبة المولد النبوي الشريف (فهناك تفاعل انتهازي ونفاقي أيضاً لكنه أقل وصادر من بعض التجار والموظفين لا من الجماهير)، ولا خوف على الهوية الإيمانية من التحول إلى دعوة عصبية.
أما الخوف من انتصار المرتزقة واستغلالهم لهذه الهوية لتصفية الوطنيين فهي في غير محلها أيضاً، فالمرتزقة سبق واستخدموا تهماً عرقية وتهمة «التحوث» في تصفية خصومهم. وليست الهوية الإيمانية الذريعة الوحيدة التي ستمنحهم فرصة للقيام بعمليات إجرامية ضد الوطنيين اليمنيين، إذا ما تقدموا، ناهيك عن أن المسار التاريخي يشير إلى تراجعهم.

الهوية الإيمانية بين الريف والمدينة
تطرح هذه المسألة بالاعتماد على تحليلات واقعية، منها القول بأن الهوية الإيمانية استطاعت أن تحل كثيراً من إشكاليات المجتمع اليمني الريفي، الذي هو دون الهوية الوطنية ويعتز بهوياته القبلية أو المذهبية أو المناطقية، بأن الهوية والأخوة الإيمانية زادت من تلاحمه ووحدت أبناءه في الجبهات، فقاتلوا كتفا إلى كتف، وقد كانوا من قبل في حالة عداء وثأر.
وأيضاً من يفترض حصر الهوية الإيمانية على الريف يعتقد أن أبناء عواصم المدن والشريحة المدنية والمثقفة المتعلمة الجامعية، التي تجاوزت الروابط المذهبية والمناطقية والقبلية وانخرطت في أشكال تنظيم اجتماعي جديدة سياسية نقابية، بأنها لن تتجاوب مع الهوية الإيمانية، كونها لا تجد في هذه الهوية معالجة لإعادة تعريف الإنسان المدني وهويته كما هي حالة الإنسان في الريف. ويطرحون أيضاً أن الإنسان في المدينة تشغله قضايا اقتصادية واجتماعية تسلب كل اهتمامه، وأن لديه احتياجات أخرى أكثر إلحاحاً بالنسبة إليه، مثل حمايته كعامل، والاهتمام بوضعه المعيشي والأمني والخدمي وغيرها.
وما سبق من تحليل فهو صائب في جانبين: جانب تعليل فاعلية الهوية الإيمانية في الريف، وجانب الإشارة لاحتياجات المجتمع في المدينة وإلى تجاوزه العقد والعصبيات التي تحكم مجتمع الريف.
الجانب غير الصائب في التحليل السابق هو مسألة أن سكان المدن لن يتجاوبوا مع الهوية الإيمانية، لأنهم تجاوزا الهويات المناطقية إلى الهوية الوطنية وتعريفات المواطنة وإلى الانتماءات السياسية وغيرها.
مجافأة الصواب في هذا التحليل، أنه يغيب عمن يطرحونه أن الهوية الإيمانية كمنظومة مبادئ تعطي الإنسان المسلم، أياً كانت مكانته العلمية وهويته السياسية، فلسفة للحياة، وتجيب على أسئلة فلسفية قديمة: لماذا وجد على الأرض؟ لماذا يعيش؟ وكيف يعيش؟ على أي مبادئ يتحرك؟ لماذا يبني الحضارة؟ ما هي نهاية الحياة؟ وما مصير الإنسان بعد الموت؟... هذا الجانب الاعتقادي الذي تجيب عليه الثقافة القرآنية والهوية الإيمانية بشكل سليم وحضاري يمثل حاجة للجميع، وقادر على استقطاب الكثير من أبناء المُدن ومن المثقفين وغيرهم إذا ما قدم إليهم بخطاب راقٍ، ولم يشوه بممارسات تخريبية.

الهوية الإيمانية والحريات الاجتماعية
سكان المدن، وخاصة الميسورين والمثقفين وذوي التعليم المتقدم، يختلفون عن سواهم من الريفيين من سكان المدن الكادحين، فقد عاشوا نمط حياة متمدناً بفعل عملية التحديث الطويلة، ولكن عملية التحديث تلك أفرزت الكثير من النتائج السلبية في نمط الحياة المدني لأسباب عديدة.
يتخوف المدنيون (وطنيين وغيرهم) من أن تصبح الهوية الإيمانية لافتة فضفاضة تُعطي لأي شخص الحق في انتهاك حرياتهم الاجتماعية وتضايقهم في حياتهم اليومية. على سبيل التمثيل لا الحصر أن يفرض عليهم لبساً معيناً ونمطاً معيناً من الحلاقة وإغلاق الكافيهات والأماكن العامة المختلطة وحرق ربطات البالطوهات ومنعهم من الأغاني ومن ارتداء الملابس الحمراء في «عيد الحب» ومن الرسم على الجدران، وغيرها من الإشكاليات التي حدثت في الفترة الماضية وأحدثت جدلاً وتم استغلالها من قبل العدو.
وإن كنتُ أختلف معهم حول بعض ما يعتبرونه حقاً في نماذج الأمثلة السابقة، إلا أني أتفق معهم في الخوف من أن تتحول الهوية الإيمانية من مفهوم ومنظومة اعتقادات وعمل كما يقدمها السيد القائد، إلى ذريعة تستغلها أي مجموعة تلعب دور «شرطة آداب». هذه المخاوف جدية، ولا تتعلق فقط بالحريات الاجتماعية المنضبطة أخلاقيا، بل وبالهوية الإيمانية ذاتها، فهي في الحقيقة تُعد تحريفاً وتشويهاً لها.
الهوية الإيمانية -كما فهمتها- جوهرها الاعتقاد، السلوك، العمل، الحركة، المسؤولية، البناء، الدفاع، التعلم، التقدم، وليس المظهر الخارجي للإنسان، ولا ينبغي أن تُقدم كلائحة وتعاليم ظاهرية، كما كان عليه حال سلوك «جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» السعودية، التي أسقطت مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عليائه إلى درك الانفعالية للشخصية البدوية النجدية السلفية.

المدينة اليمنية والتعامل مع المجتمع المتمدن
المعالجات أمران ومساران مترابطان: الأول: تقديم خطاب الهوية الإيمانية وإقناع الناس وتوعيتهم بها في المدينة، والثاني: معالجة التشوهات التي رافقت عملية التحديث في مجتمع المدينة فولدت سلوكيات ومظاهر منافية للأخلاق والمبادئ الإيمانية والإنسانية التقدمية.
وقبل ذلك يجب أن نعرف ما هو وضع مدننا اليمنية، ومدى مطابقة المفهوم للواقع، فعلى أساس هذا الفهم يكون التصرف. الواقع أن مدننا تجمعات سكانية قروية وأسواق كبيرة تشكلت نتيجة النزوح والحروب وضرب الإنتاج الزراعي الريفي ومجيء كل سُلطة بمناصريها وكوادرها ومعسكراتها إلى المدن.
وفق المعايير العلمية فمفهوم المدينة يمكن أن يطلق على كل من عدن وصنعاء وتعز والمكلا، الحواضر الأكثر تمدناً في اليمن. أما المتمدنون فهم موجودون في عواصم كل المحافظات اليمنية وأريافها بنسب بسيطة، كما أن الريفيين موجودون في عواصم المدن بنسب كبيرة، منهم المنتقلون من الريف دون عودة وتجري عليهم عملية التمدن، ومنهم الطارئون كعمال وموظفين مقرهم الرئيسي الريف. ويعود هذا الأمر إلى أن البنى الاجتماعية اليمنية انتقالية، يوجد فيها -اقتصاديا وثقافيا وسلوكيا ونفسياً- ما ينتمي إلى العهد الإقطاعي وما ينتمي إلى العصر الرأسمالي غير الناضج.
المجتمع المدني في معظمه ذو مستوى من التعليم أعلى وخاصة الجامعي، وفيه أكبر شريحة من الفنانين والأدباء والمبدعين، ومن اطلعوا واكتسبوا علوماً ومعارف وفلسفات في إطار دراساتهم وتخصصاتهم الحديثة والتثقف والاطلاع. وهذا يتطلب التعامل معه بطريقة خاصة، مع استمرار الخطاب التعبوي التلقيني لسائر سكان المدينة؛ فهناك من سُكان المُدن من يؤثر فيهم الخطاب وإن قدم بالقالب ذاته الذي يُقدم فيه في الريف، لأن المدن اليمنية ليست مدناً صناعية علمية متقدمة تشكلت نتاج تراكم طويل، كما وضحنا سابقاً.
إن وجود شريحة خاصة في المدينة لا تتقبل الخطاب في القالب ذاته الذي يُقدم فيه في الريف، هذا الواقع سلبي وإيجابي في آن، والسلبي فيه هو وجود صعوبة في إيصال فكر المسيرة القرآنية إليهم وتوعيتهم بالهوية الإيمانية، على عكس المجتمع الريفي، فلديهم موانع وحُجب معرفية وسلوكية وأيديولوجية، مع تجاهل من له موقف سياسي وانحياز مصلحي غير وطني راسخ وليست المسألة لديه معرفية، فهذا الأخير أقرب إلى المفهوم القرآني: «الذين طبع على قلوبهم».
الإيجابي أن المنتمين إلى هذه الشرائح في المدينة فاعلون في واقعهم، وقادرون على تمثل الفكر الجديد إذا وصل إليهم ونشره والدفاع عنه، عبر مختلف أشكال العلوم والمعارف والفنون والآداب التي يملكون، ويستوعبون بشكل أعمق قضية الصراع مع أعداء الأمة والإنسانية، وضرورة تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية.
في مجرى الصراع نحن بحاجة إلى مختلف هذه القدرات الكامنة في مجتمع المدينة، ومن الصعب على الإنسان الريفي أن يستوعبها في وقت سريع. والإنسان الريفي بطبيعته الاجتماعية ذو اندفاع إلى الجهاد العسكري وليس الجهاد المدني، ومع يقيننا بأن كل إنسان قادر على التعلم، وإيماننا بأن الله يهدي الإنسان الريفي إلى تملك هذه القدرات مع حركته في الجهاد، إلا أن هذا لا يعني الاعتماد الكلي على الريف وترك المدينة والإبقاء على هذه القدرات لدى المدنيين بدون هدف وشاغرة لتوجه ضد المسيرة القرآنية وضد القضايا الوطنية الأممية والإنسانية.
المسيرة القرآنية في بعدها الإحيائي الثقافي قادرة على التأثير في هذه الشريحة المدنية الخاصة. وملازم الشهيد القائد هي تثقيفية لا تلقينية، فيها إشارة إلى النص القرآني كثابت، وإلى التاريخ والواقع كمتغير وشاهد، وتطرح أسئلة على المتلقي وليس فقط تقدم إجابات. وهذا المنهج قادر على التفاعل مع هذه الشريحة المثقفة المدنية. وقضايا المسيرة القرآنية كلها قضايا ملامسة لحاجة الإنسان وللسواد الأعظم من الشعب اليمني، وغير مجافية لحقائق الواقع الوطني والإقليمي والعالمي.

أترك تعليقاً

التعليقات