استراتيجية الرد الإيرانية
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
بَنَت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ردها على الكيان الصهيوني على سياسة استراتيجية حذرة، تحافظ على قوة الردع للبلاد ضد النظام الصهيوني وتمنعه من تكرار جرائمه، وفي الوقت ذاته لا تعطيه طوق النجاة بتدويل الحرب وجر الولايات المتحدة إليها وتصدير الأزمة التي يعانيها خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وجّهت إيران رداً مشروعاً بناءً على حق الدفاع عن النفس في مواثيق الأمم المتحدة، منضبطاً بمبدأ التناسب بين حجم العدوان وحجم الرد عليه. وتركز الهجوم جغرافياً على الأراضي المحتلة عام 1967م - التي تعتبر محتلة بنظر المجتمع الدولي، كما أخطرت طهران الأمم المتحدة بردها عند نهايته، بعد شكوى سابقة قدمتها في مجلس الأمن، أي أنها هيأت الأرضية القانونية للرد.
نفّذ الحرس الثوري عمليات “الوعد الصادق”، بهتاف يا رسول الله كرمز إسلامي جامع، بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي، وتحت إشراف الهيئة العامة لأركان القوات المسلحة، وبدعم وتعاون بين الجيش ووزارة الدفاع.
كان رداً ناجحاً من وجهة النظر الإيرانية سياسياً وعسكرياً، وضعت إيران قواعد اشتباك جديدة في الرد المباشر على العدوان “الإسرائيلي” ومن داخل الأراضي الإيرانية، أثبتت قدرتها العسكرية على الردع، وأثبتت مصداقيتها أمام شعبها ودول المنطقة، كما حافظت على بقاء المعركة الرئيسة في فلسطين المحتلة، ولم تمنح حكومة نتنياهو طوق نجاة لتصدير أزمتها الداخلية العسكرية والسياسية الاجتماعية إلى الخارج.

السياسة الإيرانية
في الأدبيات الإيرانية تعرف السياسة باعتبارها التعرف على الأولويات الصحيحة واختيارها والجمع بين التناقضات في المواقف السياسية والاستراتيجية الحساسة.
كان الرد على الهجوم “الإسرائيلي” ضد القنصلية الإيرانية في دمشق، والاغتيال الذي استهدف كبار القادة العسكريين والمستشارين الإيرانيين، أحد هذه المواقف السياسية التي وضعت صناع القرار في جمهورية إيران الإسلامية أمام مثل هذه الأولويات والتناقضات.
كان على السياسة الإيرانية تحديد الأولويات بشكل أفضل والجمع بين التناقضات، من أجل الوصول إلى إجراءات أكثر نجاحاً في نتائجها.
واجهت إيران قضيتين متناقضتين في الرد على “إسرائيل”:
الأولى: عدم اللعب وفق استراتيجية “إسرائيل” لتصدير الأزمة من داخل فلسطين المحتلة إلى الخارج والتخلص من الجمود الذي خلقته حرب غزة بعد ستة أشهر من جرائم الحرب والقتل الجماعي.
الثانية: لجم المشكلة التي نشأت بالنسبة لإيران نتيجة هجمات “إسرائيل” المتتالية على مواطنين إيرانيين، خاصة في سورية، وتآكل قدرة إيران على الردع.
كان على إيران أن تخلق مزيجاً ناجحاً بين هذين الأمرين المتناقضين ظاهرياً، من خلال تخطيط وتنفيذ التدابير المناسبة، بطريقة تحافظ في الوقت نفسه على قوة الردع للبلاد ضد النظام الصهيوني، والامتناع عن اللعب في الميدان والزمان الذي يحدده العدو.

الرد
أعلنت إيران، مساء السبت 14 نيسان/ أبريل الجاري، بدء هجومها ضد “إسرائيل” بإطلاق عشرات الطائرات المسيّرة والصواريخ المجنحة، ردا على جريمة “إسرائيل” بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق. وقالت بعثة إيران في الأمم المتحدة إن هذا العمل العسكري يستند إلى المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة بشأن “الدفاع المشروع”، رداً على هجوم “إسرائيل” على القنصلية الإيرانية في دمشق.
نفذ الحرس الثوري عمليات “الوعد الصادق” بقرار من المجلس الأعلى للأمن القومي، وتحت إشراف الهيئة العامة لأركان القوات المسلحة، وبدعم وتعاون بين الجيش ووزارة الدفاع.
أرسلت إيران رسالة إلى الولايات المتحدة عبر السفارة السويسرية مفادها أنه إذا تعاونت مع “إسرائيل” في تحركاتها المقبلة المحتملة، فلن تتمتع قواعدها بأي أمن وسيتم التعامل معها أيضاً.
وكانت النتائج كالتالي:
- وضعت إيران قاعدة اشتباك جديدة، مفادها: الرد المباشر على الاعتداءات الصهيونية التي تستهدف الشخصيات والإيرانية في المنطقة، وخصوصاً الأماكن الدبلوماسية التي تُعد أراضي إيرانية.
- حققت إيران مبدأ الردع وأثبتت شجاعتها وقدرتها العسكرية على الرد، وقدراتها التكنولوجية.
- حافظت على بقاء معركة “طوفان الأقصى” في نطاق الأراضي الفلسطينية المحتلة ولم تجر الولايات المتحدة إلى الانخراط في الحرب.

التداعيات
استغلت الولايات المتحدة الأزمة وحولتها إلى فرصة في تنسيق عمليات الدفاع عن الكيان الصهيوني، وبعثت رسالة إلى دول الخليج بأنها قادرة على الدفاع عن حلفائها، وأنها مستعدة لتعزيز جهود دولية وإقليمية لمواجهة إيران في المنطقة، وهي رسالة للصين أيضاً التي يتنامى حضورها في المنطقة، بالتزامن مع تحالف أمريكي - بريطاني - أسترالي في منطقة جنوب شرق آسيا، محتمل انضمام اليابان إليه. أي أن أمريكا تريد تحويل التحالف العسكري الذي تشكل لظرف ميداني طارئ وتحويله إلى حقيقية أمنية، وتوسيعه.
أثبتت الولايات المتحدة قبل وأثناء الهجوم الإيراني التزام إدارة بايدن الثابت بأمن الكيان الصهيوني، إذ نسقت مع “إسرائيل” ودول المنطقة، وعززت القوات “الإسرائيلية”، وشاركت على نطاق واسع في جهود الاعتراض.
صورت أمريكا حدث التصدي باعتباره جهداً مشتركاً لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة والغرب ضد إيران. علاوة على ذلك، يرى بايدن أن التعاون الإقليمي يساهم في تعزيز الردع ضد إيران.
إلا أن عجز أمريكا عن التأثير في السياسة الإيرانية ومنع الرد في ذاته -لا مسألة التصدي له- مؤشر خوف لدى دول الخليج، فالضمانة الأمنية ليس مشاركتها بالدفاعات الجوية، بل منع وقوع هجوم عليها من أصله، وبدأت تتضح مع الأيام أن الأهداف العسكرية ضُربت في العمق الصهيوني، وأن التصدي لم يكن ناجحاً بذلك الشكل الذي تم التسويق له.
من المتوقع أن تستخدم الإدارة الأمريكية الأحداث الجارية لمواصلة جهد دبلوماسي عدواني واسع النطاق ضد إيران، وقد تسعى الإدارة أيضاً إلى تعزيز الضغط على إيران في الملف النووي.
يمكن لـ”إسرائيل” أن تكون راضية عن معدل الاعتراض الذي اعتبرته ناجحاً، والتعاون الاستثنائي مع الولايات المتحدة وبريطانيا والأردن وفرنسا، واعتبار الضرر الناجم عن الهجوم الإيراني ضئيلاً، وبالتالي لم تفكر بالرد، أما واقعيا فقد ردت بطريقة غير مباشرة رداً محدوداً، وما حدث في أصفهان كان من داخل الحدود، ولم تتبنَّه أي جهة “إسرائيلية” رسمية، وهو عبارة عن انفجار ثلاث مسيّرات صغيرة وخفيفة الوزن. وأشارت يومها صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية إلى أنه إذا صح الهجوم “الإسرائيلي” على إيران فإنها ضربة نُفذت بهذا الشكل كي تنهي “إسرائيل” الحدث، وإعادة ماء الوجه.
في نهاية المطاف فإن الرد الإيراني كحدث في تأثيراته الاستراتيجية لا يقل أهمية عن حدث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وبحسب الباحث  Can Kasapoğlu  في معهد هدسون الأمريكي، في تقريره بعنوان “لم تكن ضربة طهران رمزية، ويمكن أن تتكرر مرة أخرى” بتاريخ 15 أبريل 2024: “كان يوم 13 نيسان/ أبريل بمثابة فشل خطير لهياكل الردع التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وتشير القصص الإخبارية، التي لم ينفِها المسؤولون في إدارة بايدن، إلى أن واشنطن تواصلت مع طهران عبر قنوات خلفية، وتفاوضت حول حجم الهجوم وطبيعته، بدلاً من رسم خطوط حمراء واضحة لخصمها”.

أترك تعليقاً

التعليقات