فضل النهاري

فضل النهاري / لا ميديا - 

قلة قليلة كنا في ساحة الحرية بتعز مطلع العام 2011. أنا وبليغ الشامي والوالد عبدالعزيز الرميمة ومن معه من قرية حدنان، والقاضي المساوى والقاضي نجيب العزي، وكوكبة من بيت الجنيد أيضاً، والشهيد أحمد العزي (سلام الله عليه) والحبيب الشهيد عبدالوهاب الحسام الذي شهدنا مراسيم تشييعه الأربعاء الماضي مع كوكبة من مجاهدي الجيش واللجان الشعبية، فعليهم جميعا وعلى كل الشهداء الأبرار سلام الله ورضوانه.
فصول من رحلة أشعر أنها تعود لقرون من الزمن -وليس 9 أعوام فقط- بكل ما فيها من معاناة وإرهاصات وتحديات في مشهد كان يعبر بالنسبة لنا عن إرادة جمعية للتغيير الشامل لدى مختلف القوى والمكونات التي وجدت في ساحات التغيير فرصة لفرض إرادة الشعب الحر والتواق لغد مشرق بالحرية والاستقلال والسيادة والمواطنة المتساوية. كم كنا نأمل أن يصل الوطن بنا جميعا إلى بر الأمان، لولا خيانة الخائنين وقطعان العمالة والتبعية، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المتأسلمين والقطاعات الحزبية وغير الحزبية التابعة لها آنذاك.
صحيح أن الأيام كشفت لاحقا عن تدخل خارجي كبير في تأجيج وإدارة ما سُمي «ثورات الربيع العربي» لصالح أهداف غربية استراتيجية، لكن ذلك لا يلغي ولا يشوه صورة الحراك الثوري الحقيقي والوطني الموجود حينها والخارج عن نطاق التبعية والوصاية، وكان يمثل بالفعل امتدادا أصيلا للحراك الثوري الشعبي المناهض للنظام الحاكم منذ العام 78 وصولا إلى 94 و2004 وحتى عام 2011، يناهض منظومة الحكم التي اشتهرت في الأوساط السياسية والثورية باسم نظام (7/7).
كان الانحراف المخيف في مسار تلك الثورة أو الانتفاضة الشعبية عاملا مهما في انقسام مكوناتها. أكثرية تتجه نحو قبول المحاصصة مقابل بقاء النظام وتقاسم السلطة على حساب الأهداف الحقيقية للثورة، وأقلية رفعت شعار استمرارية الثورة ورفض الوصاية الخارجية واجترحت في سبيل ذلك مخاطر وصعوبات جمة كان لـ»أنصار الله» النصيب الأوفر في مواجهتها باعتماد كامل على الله تعالى ويقينا بعونه وتوفيقه.
وبالفعل فقد شهدت تلك المرحلة المأساوية من تاريخ شعبنا اليمني تساقط وانكشاف أقنعة وأوراق العمالة والخيانة بشكل متسارع ومذهل، بالإضافة إلى بروز مشاريع التدجين الرامية لإعادة إنتاج النظام السياسي نفسه، ولكن بوجوه جديدة لا غير، وبواقع أشد بؤسا وتبعية من ذي قبل.. وهو الأمر الذي أذن بسقوط نظام المحاصصة سقوطا مدويا في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، بعد سلسلة إجراءات ثورية متصاعدة.
سقط النظام الحاكم وسط حالة من الصدمة والذهول لدى اللاعبين الدوليين والإقليميين وأدواتهم المحلية. قبل سقوط نظام الوصاية كان الحراك الثوري مهددا أكثر من ذي قبل بالمواجهة، لما يحمله من أهداف تمس جوهر العلاقة التبعية بين النظام الحاكم في اليمن ودول الوصاية في الخارج، وهو ما لم يكن موجودا أصلا في أجندات الأحزاب المعارضة قبيل تنحي الرئيس صالح وتسلم هادي دفة القيادة بعد انتخابات 2012 الهزلية التي جرت بضغط أمريكي وخليجي.
التظاهرات والمسيرات الجماهيرية المناوئة للنظام التي تواصلت بعد انحراف مسار الثورة آنذاك ووجهت بقبضة أمنية مستميتة بهدف كبح جماحها. مجاميع مسلحة غير رسمية شاركت أيضا في قمع تلك التظاهرات خاصة في تعز... لا أتذكر فعالية أو تظاهرة سلمية في تلك الفترة لم تتعرض للاعتداء، سواء عبر الأجهزة الأمنية أم عصابات بلاطجة الإخوان.
كان من أكثر ما يميز تلك التظاهرات هو صوت الشهيد عبد الوهاب الحسام (رحمة الله عليه)، هتافاته العالية التي تشق عنان السماء، مثيرة السخط والرفض الإخواني لكل ما يعكر مسار المحاصصة القائم والذي دشن بعمليات أخونة شاملة للأجهزة الرسمية للدولة مرورا بهيكلة (تمزيق) القوات المسلحة اليمنية وتسليم المعسكرات تباعا لعناصر «القاعدة» و»داعش» بشكل رسمي!!
سقط ذلك النظام سريعا بقوة الحق وإرادة الشعب. ولا أبالغ حين أقول بأن كثيرا من المغفلين وقعوا حينها في فخ الظنون بأن مسارا تفاوضيا آخر قد ينشأ -أو قد نشأ بالفعل- لتوسيع رقعة المحاصصة وتقاسم كعكة الوطن بعد إضافة طرف جديد لا أكثر، وبعيدا عن مصلحة الوطن العليا والقيم والأهداف الثورية والإنسانية التي نادى بها شرفاء وأحرار الوطن من تعز حتى صعدة ومن صنعاء حتى مأرب وشبوة ومن عدن حتى حضرموت والمهرة...
كان كل شيء فيما يتعلق بوليمة القوى الانتهازية والرجعية وشبكة العملاء على مائدة الوطن المذبوح قد انتهى، لينطلق مسار العمل الثوري نحو إعادة ترميم ما مزقته السنون العجاف على مختلف الأصعدة والميادين، وفي مقدمتها المجال السياسي والثقافي والاجتماعي.
وهنا يعود صوت الشهيد عبدالوهاب الحسام كأحد أبرز الأصوات الثورية الشابة بتعز، والتي حملت على عاتقها مسؤولية العمل الاجتماعي والثقافي. وتمكن الحسام بالفعل من تحقيق إنجازات ملموسة بقدرته الفائقة في مجال التواصل والاتصال.
مشهد يمني آخر وجديد لم تجد معه دول الوصاية الخارجية وأدواتها الإقليمية سوى إعلان الحرب على اليمن في مارس 2015، إعلان تحولت معه الكثير من الجهود الثورية المدنية إلى عسكرية تحت ضغط المرحلة ومتطلبات الواجب الوطني والمسؤولية الأخلاقية والدينية تجاه ما يتعرض له اليمن وثورته الفتية وشعبه العظيم من اعتداء سافر.
وهنا يظهر الشهيد عبدالوهاب الحسام (رحمة الله عليه) حاملا البندقية هذه المرة، وليس الميكرفون ولا القلم، كواجب مقدس لم يكن ليضعه جانبا، مُؤثرا مغادرة محافظة تعز -كما فعل آخرون- بحثا عن دور مكتبي أو مكاسب شخصية في أحسن الأحوال!!
صادفت الشهيد الحسام (رحمة الله عليه) أكثر من مرة منذ بدء المواجهات مع العدوان ومرتزقته بتعز، جنديا ومجاهدا من الطراز الأول. فقد كان رحمة الله عليه من بين الطليعة التي تمكنت من تطهير اللواء 35 بالمطار القديم بتعز في مارس 2016، ثم تنقل بعدها بين عدة جبهات بمحافظة تعز قبل أن يتعرض لإصابة بالغة خلال أداء واجبه الجهادي في حي الجحملية، إصابة تعذرت معها إمكانية علاجه في الداخل، فكان واحدا من مجاهدي الجيش واللجان الشعبية الذين جرى نقلهم لتلقي العلاج في الخارج.
عاد الحسام إلى أرض الوطن ليواصل وبعزم لا يلين دوره الجهادي بإخلاص. تنقل بين عدد من جبهات ومحاور القتال في اليمن، بين تعز والبيضاء والجوف والضالع ومأرب حتى اصطفاه الله شهيدا بطلا مجيدا خالدا محفوفا بالفخر والسيرة العاطرة، وأنموذجا فريدا للإنسان اليمني الحر والشريف والمؤمن المجاهد والبطل والجسور الذي تفخر به اليمن ومحافظة تعز من الآن وحتى قيام الساعة.
فسلام الله عليك أيها البطل المجاهد، يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.

أترك تعليقاً

التعليقات