جراح لا تندمل
 

فضل النهاري

فضل النهاري / لا ميديا -
صفحة من سجل الصفحات القاتمة التي عاشتها اليمن إبان العدوان السعودي الأمريكي على البلاد في مارس من العام 2015 للميلاد دارت فصولها هنا في تعز..!
مجازر وجرائم يندى لها جبين الإنسانية شهدتها هذه المحافظة اليمنية على يد تحالف العدوان وأدواته المحلية والأجنبية في الداخل، جرائم ستبقى رغم تقادم الأيام والسنين جرحا غائرا في الضمير الإنساني وشاهدة على حجم المشروع التآمري الذي أعد خصيصا لتكتوي به اليمن عموما وتعز على وجه التحديد.
تعز عاصمة السلم والتعايش والثقافة اليمنية ورائدة حركات التحرر الوطني عبر العصور.. صرح معرفي وثقافي أريد له أن يندثر لتقوم على أنقاضه ممالك «داعش» وأخواتها ولتبتدئ المأساة!
الأحداث الدامية التي شهدتها اليمن عموما ومحافظة تعز تحديدا قبل وبعد بدء العدوان السعودي الأمريكي على اليمن لم تكن وليدة اللحظة ولكنها نتاج طبيعي وتسلسل منطقي لجملة من التراكمات السياسية والثقافية والاجتماعية عملت قوى العدوان ووكلاؤها التاريخيون في الداخل منذ عقود طوال على زراعتها وتغذيتها داخل المجتمع اليمني وبرعاية من الأنظمة السياسية المتعاقبة على البلاد بدءا من أواخر القرن الماضي على وجه الخصوص وعبر سياسات اتسمت بالتبعية المطلقة للخارج، تبعية امتدت لتشمل كافة أوجه الحياة العامة وصولا إلى القرارات السيادية للبلاد.
الشراكة التاريخية بين النظام السياسي السابق في اليمن والجماعات الوهابية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين شكلت منعطفا هاما وخطيرا في التاريخ اليمني المعاصر برزت فيه إلى السطح اللافتات المذهبية والمناطقية والعنصرية وغيرها من اللافتات التمزيقية والتي برزت كجزء أساسي من أجندة تحالف العدوان السعودي الأمريكي.
هذه الشراكة التاريخية بين النظام السياسي في اليمن والجماعات الوهابية التكفيرية وعلى الرغم من كونها جرت برعاية من دول الوصاية على البلاد أو قوى تحالف العدوان الرئيسية ، إلا أنها تأثرت كثيرا إبان الانتفاضة الشعبية في فبراير عام 2011، لكن آثارها كانت قد امتدت لتتجاوز إطار العمل السياسي المشترك إلى مدى خرج عن سيطرة اللاعبين المحليين إلى التحريك المباشر لكل هؤلاء من غرف استخبارات العدوان.. يندرج ضمن تشكيلة الأدوات المحلية هذه نخب سياسية وهيئات وكيانات مدنية متعددة انخرطت خلال فترات زمنية مختلفة وتحت تأثير المنعطفات السياسية والاقتصادية في البلاد داخل بوتقة الارتهان للخارج.
عانت تعز طوال العقود الأخيرة حالة من الاحتقان السياسي والعدوان الثقافي المنظم عبر الجماعات التكفيرية الوهابية وأذرعها السياسية والعسكرية بهدف تغييب الهوية الحضارية والدينية لهذه المحافظة وغيرها من المحافظات اليمنية ذات الطابع الديني الصوفي المتجذر في أعماق التاريخ.. والمرتبط ارتباطا وثيقا بفقه وحب أهل بيت رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. هذا الاستهداف كان عبارة عن نموذج مصغر للاستهداف الشامل لكافة التيارات المناهضة لمشروع الهيمنة والاستعمار وأدواته في الداخل.
ومع اندلاع العدوان السعودي الأمريكي على البلاد في مارس من العام 2015 والفترة الزمنية التي سبقته شهدت تعز واليمن عموما أبرز تجليات هذا المشروع التكفيري الوهابي، عمليات تصفية واغتيالات ممنهجة طالت رموزا دينية وسياسية وثقافية مناهضة للمشروع الصهيوأمريكي اتسمت في أوقات كثيرة بالطابع الطائفــــــــي والعنصـــري والمذهبي والمناطقي بشكل يوحي للمراقب بأن اليمن قد دخلت مرحلة تاريخية عصيبة لن تخرج منها قبل دفع فاتورة باهظة الثمن!
المعالـــم التاريخيــــــة والمساجد الأثرية وأضرحة الأولياء تعرضت لأوسع هجمة تدمير وإحراق وتفجير على يد العصابات التكفيرية شملت كافة المحافظات اليمنية الجنوبية منها على وجه التحديد، بالإضافة إلى تعز.
55 جريمة على الأقل أوردها الملتقى اليمني للتصوف في إحصائية صدرت في العام 2018 للجرائم المرتكبة من قبل عصابات «داعش» و»القاعدة» بحق الآثار والمساجد التاريخية والقباب والأضرحة، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال ونبش القبور؛ 21 منها في محافظة تعز وحدها، وفي صورة مستنسخة لما جرى في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها على يد العصابات التكفيرية نفسها.
مجزرة آل الرميمة واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق المواطنين بمديرية مشرعة وحدنان بتعز على يد التكفيريين وأتباعهم في الثلث الأخير من العام 2015.
فصول هذه الجريمة بدأت بعد اندحار فلول مرتزقة العدوان من معسكر اللواء 35 بمدينة تعز، وتمركزهم في منطقة أدود بصبر الموادم، واستهداف المواطنين والممتلكات العامة والخاصة، بالإضافة إلى قوات الجيش واللجان الشعبية في ذلك المعسكر وفي محيطه وصولا إلى منطقة الضباب وبمختلف أنواع الأسلحة.. ما دفع قوات الجيش واللجان الشعبية لاستحداث موقع عسكري مقابل في قرية «ذي عنقب» بمديرية مشرعة وحدنان وذلك لمنع مرتزقة العدوان في أدود من مواصلة أعمالهم العدوانية.
لم يرق الأمر للجماعات التكفيرية وعلى رأسها حزب الإصلاح فدفعوا بالمئات من أتباعهم ومواليهم للتظاهر والاحتشاد في مديرية مشرعة وحدنان واستفزاز الحامية العسكرية هناك.. هذه الاحتجاجات المدروسة تصاعدت بعد مقتل أحد المتظاهرين إلى هجمات مسلحة جرى خلالها إحراق دبابة عسكرية على يد عناصر سلفية تلاه الاعتداء على أحد الأطقم العسكرية وقتل كافة أفراده بعد قطع الطرق المؤدية إلى المديرية من قرى «المحرس والقبلة» وحصار أفراد الحامية العسكرية في «أكمة مسعود».
كان هذا السيناريو بحسب الكثيرين معدا بعناية لتفجير الأوضاع في مديرية مشرعة وحدنان وبداية لعملية تصفية واعتقالات وتشريد واسعة شهدتها قرية حدنان وشملت كافة المناهضين للعدوان السعودي الأمريكي وعلى رأسهم المئات من آل الرميمة وغيرهم من الأسر والعائلات والشخصيات في هذه المديرية وتحت عناوين طائفية وعنصرية ومذهبية أعدت سلفا.
يقول شهود العيان إن المئات من العناصر التكفيرية جرى استقدامهم من مديريات أخرى كما أن عددا منهم كانوا من جنسيات أجنبية.
كان واضحا أن ذلك الاستهداف لم يقتصر على أفراد الجيش واللجان الشعبية المتمركزين في موقع ذي عنقب، بل شمل أيضا كافة أهالي المديرية المنتمين إلى جماعة أنصار الله والمناوئين للعدوان السعودي الأمريكي على حد سواء.
المساعي القبلية لتهدئة الأوضاع أفشلها المرتزقة رغم توالي الوساطات.. كان كل شيء يسير باتجاه تنفيذ سيناريو معد بعناية.. هاجم المئات من التكفيريين قرية حدنان من كافة الاتجاهات صباح الأحد 16 أغسطس، أي بعد يوم واحد فقط على اتفاق التهدئة ليرتكبوا إحدى أبشع المجازر في تاريخ العدوان السعودي الأمريكي.
اقتحمت المنازل واحدا تلو الآخر.. أعمال نهب وسلب واسعة قام بها التكفيريون ومن معهم لعشرات المنازل.. عدد من تلك المنازل أحرقها التكفيريون أو قاموا بتفجيرها.
العشرات من الأسرى وجلهم من المدنيين جرى اقتيادهم بطريقة وحشية إلى سجون «داعش» و«القاعدة» في مدينة تعز.. البعض منهم قتلوا في قرية حدنان وسحلت جثامينهم أمام الأهالي.
عشرات النساء والأطفال من آل الرميمة كانوا عرضة للاستهداف المباشر والمتعمد من قبل التكفيريين، وتعرضوا لأبشع صنوف الإذلال والترويع والإهانة ومحاولات انتهاك الأعراض.
عشرات الجثامين ألقيت على قارعة الطريق.. لم يجرؤ أحد على انتشالها وتداولت صورها وسائل إعلام العدوان بنشوة المنتصر.. كان مشهدا يندى له الجبين!
وفي ماعدا نساء آل الرميمة لم يكن ثمة من يعين على انتشال جثامين الشهداء والضحايا المغدورين ودفنها... لقد كانت سابقة في تاريخ تعز أن تشهد جنائز تشيعها نساء فقط!
لم يقف المشهد المأساوي عند حدود الحاضر.. بل امتد ليطال معالم الماضي أيضا أضرحة وقباب وقبور الصالحين من آل الرميمة ومنها ما يعود إلى ما قبل 6 قرون هدمت وأحرقت ونبشت على يد «داعش» و»القاعدة».
الإحصاءات الموثقة عن تلك المجزرة تشير إلى أن عدد شهداء هذه المجزرة الوحشية بلغ 28 شهيدا و11 جريحا، من بينهم 3 شهيدات و4 أخريات في عداد الجرحى.
145 منزلا جرى اقتحامها، وهي إجمالي عدد الأسر التي هجرت قسرا، منها 35 منزلا هدمت أو أحرقت بشكل كامل، والحصيلة الإجمالية لعدد المهجرين من آل الرميمة فقط 945 شخصا.
جريمة ومجزرة بشعة لم يحرك لها المجتمع الدولي أو منظمات حقوق الإنسان ساكنا.
الشهادات التي جمعناها من أهالي قرية حدنان، لاسيما من الناجين والأسرى -ومنهم من لايزال مصيره مجهولا حتى الآن- أكبر من أن توجز تفاصيلها في سطور.
جريمة قرية حدنان وما تزامن معها من جرائم مماثلة شهدتها مدينة تعز إثر اقتحام عصابات مرتزقة العدوان لمقر الأمن السياسي بالمدينة وسيطرتهم على قلعة القاهرة التاريخية وما تلى ذلك من عمليات سحل وتمثيل بجثث شهداء الجيش واللجان الشعبية في شوارع المدينة، كل ذلك كان مؤشرا على مرحلة جديدة تدخلها محافظة تعز لأول مرة في تاريخها، مرحلة قاتمة يرسم العدوان ومرتزقته عناوينها الملطخة بالدماء وبالحقد التاريخي الوهابي الدفين تجاه اليمن وشعبه، وإيذانا لجرائم أخرى مماثلة ارتكبت تحت عناوين طائفية ومذهبية وعرقية وكهدف استراتيجي لقوى العدوان يضمن لها إغراق البلاد في مستنقع صراعات لا تنتهي.. صراعات تتجاوز بآثارها الزمن الحاضر إلى الأجيال القادمة.
بعد اقتحام قرى حدنان كانت الوجهة الثانية للعناصر التكفيرية هي قرى الصراري بمديرية صبر الموادم.
جامع الشيخ جمال الدين ظل عبر قرون منبر إشعاع ديني وثقافي وعلمي حافظ على خصوصية الطيف الديني في اليمن وقاوم بصلابة عوامل الهدم الثقافي والديني المتمثل بالتيار الوهابي التكفيري الدخيل على المجتمع اليمني.
كما شكلت هذه المدرسة وما أنجبته من أعلام ونخب رافدا لكل حركات التحرر والمقاومة والإصلاح الاجتماعي والسياسي ومقاومة الاستعمار القديم والحديث بدءا من مقاومة الاحتلال العثماني وصولا إلى دعم وتأييد المسيرة القرآنية ومؤسسها الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي منذ البدايات الأولى لظهور جماعة أنصار الله بصعدة مطلع الألفية الثانية.
خضعت قرى الصراري لحصار خانق تعذر معه وصول المواد الغذائية والأدوية والطواقم الإسعافية إلى قرى الصراري المحاصرة.
عدد من المرضى والشيوخ والمسنين فارقوا الحياة جراء عدم تلقيهم الرعاية الصحية اللازمة.
وضع إنساني كارثي لم تجد معه المناشدات والدعوات إلى الجهات الإغاثية والمعنية بحقوق الإنسان بسرعة التدخل أي صدى يذكر.. حصار استمر لمدة عام كامل قبل أن يجتاح المئات من جنود المرتزقة وفي مقدمتهم العناصر التكفيرية قرى الصراري يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر يوليو عام 2016.
يروي الناجون من أبناء الصراري بعضا مما جرى في قراهم على يد المرتزقة والتكفيريين بقلوب تقطر أسى وحسرة لما آلت إليه الأوضاع في تعز التي كانت ملاذ الخائفين وقبلة المستنيرين ووجهة العلماء والمثقفين من طول البلاد وعرضها.
في السادس عشر من شهر يوليو 2016 أعطت غرفة عمليات التحالف الأوامر لفصائل المرتزقة والتكفيريين باقتحام قرى الصراري.. مئات المسلحين المعززين بترسانة عسكرية هائلة وإسناد جوي مكثف بدؤوا بالهجوم من جميع الاتجاهات واقتحام القرى المحيطة بالصراري تباعا ممارسين خلال ذلك أبشع أنواع القتل والتنكيل والسلب والنهب وإحراق المنازل والممتلكات.
تفاصيل المآسي والجرائم التي ارتكبت قبل وبعد اقتحام الصراري صبيحة الثامن والعشرين من شهر يوليو 2016 أكبر من أن تلخصها أسطر وكلمات.
لم يكن قد بقي من شباب الصراري المقاومين والمدافعين عنها سوى سبعة فقط حين اقتحم نحو ألف مسلح من المرتزقة والتكفيريين قريتهم.
كل الاتفاقات والوساطات القبلية لمنع وقوع الكارثة أفشلها المرتزقة.. كان آخرها قبيل اقتحام قرية الصراري بيوم واحد فقط.
الأهالي الذين قرروا مغادرة القرية في الساعات الأخيرة عبر منطقة حصبان بأطفالهم ونسائهم جرى التقطع لهم واقتيادهم أسرى.
الأطفال لم يكونوا استثناء في خطة التكفيريين، أربعة أطفال وهم: محمد خالد محمد الجنيد، مروان عبدالكافي الجنيد، عبدالناصر مهيوب، وعلاء محمد محمد عبدالواسع، جرى اعتقالهم وقتلهم شنقا وذبحا بعد أن أمطر التكفيريون أجسادهم بالرصاص وتم سحل جثامينهم وإحراقها أمام قيادات المرتزقة.
فور دخول مسلحي المرتزقة إلى قرى الصراري نفذوا أكبر عملية نهب وتخريب شهدتها تعز والمنطقة.
مسجد جمال الدين التاريخي جرى نهبه وإحراقه ونبش ضريحة على يد التكفيريين، مشهد لم يكتمل حتى قاموا بتكبيل أحد الأهالي وهو بلال سعيد إسماعيل داخل المسجد قبل أن يفجروه وهو بداخله.
كان إعلام العدوان يحتفي مرة أخرى بما سماه انتصارا ويا له من انتصار!
شهداء مجزرة الصراري بلغوا 26 شهيدا؛ بينهم 6 أطفال يضاف إليهم 11 شخصا من المرضى والعجزة قضوا جراء عدم توفر العلاج؛ بينهم امرأة واحدة، بالإضافة إلى 12 جريحا، و49 أسيرا اقتادهم مرتزقة العدوان إلى معتقلاتهم في مدينة تعز تحت التعذيب النفسي والجسدي، أسيران اثنان ارتقيا شهيدين جراء التعذيب في المعتقل، ولايزال 20 أسيرا يقبعون في تلك السجون والمعتقلات حتى الآن.
112 منزلا دمرت بشكل كامل بعد نهبها، بالإضافة إلى منازل أخرى.. 374 أسرة شردت وبعدد يربو على 2161 مهجرا قسريا.
كل هذا وأكثر تم على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي الذي قدم نفسه كشريك لقوى العدوان في كل ما يدور.

أترك تعليقاً

التعليقات