المؤرخـون والبعـثة الشريفة
 

سرور عبدالله

سرور عبدالله / لا ميديا -
تزامناً مع ذكرى الهجرة النبوية في هذا العام الهجري الجديد آثرت أن أعهد إلى القلم بمهمةِ ترجمة وإخراج اعتمالات وخطرات وانبعاثات فكرةٍ لطالما أرقتني تباعاً، كلما وقفت على مصدرٍ من المصادر التاريخية التي تُعنى بتاريخ أمتنا الإسلامية عامةً، أو تقتصر على دراسة وتوثيق حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) ابتداءً بمولده، ومن المولد تنطلق إلى طفولته وشبابه وصولاً إلى زمن البعثة النبوية، وما تلاها من أحداث كالهجرة من مكة إلى المدينة، والتي تعتبر حدثاً هاماً لكونها بداية بناء المجتمع الإسلامي، وبوابةً للدخول إلى ساحة الصراع بين الحق والباطل، لينتج عن كل ذلك الصراع تحولات كبرى تشكلت ضمن مسارٍ تدريجيٍ تصاعديٍ عبر معارك كثيرة، بحيث كان لكل معركةٍ دورٌ في تثبيت الواقع الجديد وتعزيز قوته وتعميم مفاهيمه الحقة في قلوب الناس ونفوسهم وتنظيم علاقتهم بالحياة وما يتصل بها وفق النظم الربانية التي جاءهم بها رسول الله، وبناء مفاهيمهم في كل شيء على أساس كتاب الله الذي ارتضاه سبحانه لهم.
وهكذا يستمر المؤرخون في سرد سيرة ومسيرة الرسول والرسالة دعوةً ودولةً وتشريعاً وسلماً وحرباً وعبادات وأخلاقاً وممارساتٍ في كل مجال من مجالات الحياة حتى التحاق الرسول صلوات الله عليه وعلى آله بالرفيق الأعلى، وهذا جيد، بل عظيم في ظاهره، لكنه فيما اشتمل عليه من تفاصيل وتضمنه من أحداث احتوى الكثير من الزيف والتلبيس، ودخلت فيه الأخبار الموضوعة والأحاديث المختلقة المكذوبة، وجنح إلى الأسطورة، واعتمد الخيال الدرامي الذي يسعى لخلق الدهشة والرعب ويركز على الإثارة بمعزل عن أجواء الوحي وحركة الرسالة المحمدية في الجانب العملي المجسدة للنظرية في مقام التطبيق.
ولكي يطلع القارئ على حقيقة ما أدعيه فسوف أضع بين يديه جانباً مهماً وعظيماً من جوانب الحياة الكريمة لرسول الله (صلوات الله عليه وآله)، هذا الجانب هو جانب البعثة النبوية الشريفة، ولن أذهب إلى بقية مراحل حركة الرسول والرسالة، لأن معرفة ما جناه المؤرخون على رسول الله في قصة المبعث فيه الكفاية لمعرفة ما اخترعه هؤلاء في كل المراحل التالية لبعثته صلى الله عليه وآله.

أهمية البعثة النبوية
لن تكون صلتنا بالنبي صلوات الله عليه وآله في مولده وبعثته وهجرته صلة ذكرى نعيشها مدةً من الزمن ثم لا تلبث هذه الذكرى أن تطوى مع انقضاء زمن تذكرها فيعتريها النسيان وتلفها غمرات البعد والقطيعة، ولكنها صلة العقيدة بلحظة تخلقها وبزمن ولادتها ونموها وترعرعها حتى غدت قوة تصنع الذات الإنسانية بالرسالة الإلهية الموجدة لتغيير كبير يبني الفكر ويطهر النفس ويربي الروح ويحيي القلب والضمير في عملية تجدد وإبداع، يخرج الناس بموجبه من ربقة الجهل والخوف والظلم والانسحاق والعبثية والسفه والضلالة إلى سعة العدل والقسط ونور العلم والمعرفة والزكاء والحكمة، وهكذا يتجلى لنا ما تمثله قصة البعثة النبوية باعتبارها قصة رسالة تصل الأرض وتربطها وأهلها المستخلفين من الله عليها بوحي السماء. ثم إن من المعلوم لدى البشرية جمعاء أن عظمة النهايات في ما تتوصل أي ثورة أو مسيرة إنسانية تقاس بعظمة البدايات التي بنت أسسها وبينت وجهة وهدف المنتمين إليها والمتحركين على هدى من المنهج الذي يحفظها من السقوط، ويمنعها عن الوقوع في الانحراف، ويجعل المظهر نسخةً من جوهر ما قامت عليه الحركة من فكر وموقف وقضية ومبدأ وسلوك وأخلاق وقيم، فكيف إذا كانت البداية بداية رسالة تستهدف الإنسان الذي بات مدة من الزمن في خانة العدم، وإن بدا جزءاً من الوجود، وفي عداد الموتى، وإن تحرك ومارس بعض مظاهر الذين يتمتعون بالحياة، لأن الأكل والشرب والحركة والتكلم لا تكفي للتدليل على الحي من الميت، باعتبار الفروق بين حياة الإنسان وحياة البهائم وبقية الكائنات الحية.
من هنا تكتسب الرسالة الإلهية قيمتها، كونها أحدثت بعثاً لموات الآدمية بهزة وجدانية فتحت القلوب على الحياة ومستقبل الإنسان في الدنيا والآخرة، وكيف بهذه البداية إذا كانت بداية نبي أعده الله لحمل الرسالة الخاتمة وأكمله الله في كل شيء ليبلغ عن ربه الدين الكامل، وجعله الله إماماً للأنبياء، وسيداً للمرسلين، واختصه بأن كان خير خلق الله أجمعين، لا شك أنها ستكون بداية رائعة بما تم لها من مظاهر السمو ومعالم الكمال ودلائل الرفعة والشرف والكرامة ومرتكزات العدل والأمن والسلامة النفسية والبدنية والمصيرية.
إذاً، فهي لا ريب ستكون في جوٍ هادئ وواقعي ليس فيه من الدهشة أو الرعب والخيال ملمح من قريب أو بعيد حتى على مستوى ما تمثله المعجزة التي لا تخرج عن كونها نوعاً من أنواع الإثبات للحق والتدليل عليه والبرهنة على عظمته، في عملية تتجه أول ما تتجه إلى القلوب والعقول لتخاطب بذلك كيان الإنسان، وتنزع الحجب من نفسه ليتسنى له الوصول إلى الحق المكون لفطرته التي متى ما عرفها عرفته هي بالحق الذي جاء من عند الله.
تلك هي قصة البعثة النبوية التي تدرك أهميتها من خلال معرفة مهام من بعثه الله رسولاً إلينا، وهكذا تراها العقلية الناقدة المتزودة بثقافة القرآن والملتزمة أبداً بالإسلام المحمدي الأصيل، لكن ماذا عن المؤرخين؟ كيف تناولوا قصة المبعث؟ وكيف قدموا النبي؟ هذا ما سنعرفه فيما نستقبل من حديث في عدد الغد، وسنعمل على النقل للخبر كما هو، ولن نتدخل فيه، لنترك الحكم لذوق القارئ وفطرته السليمة ليتهيأ له معرفة حجم الغزو بالمكذوبات والأخبار الموضوعة لتراثنا، ومدى الارتباك الذي أورث الانحراف في واقعنا.

مشاهد خوف واضطراب
روى السيوطي في "الدر المنثور" ما نصه: «أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه والبيهقي من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بدأ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه (وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد) قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه المَلَك فقال: إقرأ. قال: فقلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *w خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ». فرجع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرجف بها فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني؛ فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر. فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عَمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: ما ترى يا ابن أخي؟ فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا والله الناموس الذي أُنزل على موسى، ليتني أكون فيها جذعاً، يا ليتني أكون فيها حيّاً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أومُخرجيّ هم؟ قال: نعم؛ لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً».
هذه إحدى الصور التي رويت في قصة البعثة. وإن القليل من التأمل من قبل القارئ لهذه الرواية سيجعله يدرك حجم المأساة التي فرضت سطوتها على تراثنا الديني وتاريخنا الإسلامي، وأساءت إلى النبي في شخصيته ورسالته، فأنت عزيزي القارئ تدرك أن القصة هي قصة المبعث، ولأنها كذلك فلا بد من أن تكون الأجواء المحيطة بها، والمصاحبة لحركتها هي أجواء تسودها الثقة بالله، وتضج بها الطمأنينة، لتتحرك شخصية النبي صلى الله عليه وآله بروحية مُلِئت بزاد الإيمان، وبيقين مؤكد بالثبات مهما كانت الأخطار والتحديات، ولكن هذا -مع الأسف- غُيبَ من قبل المؤرخين على الرغم من بيانه وجلائه واتساع طرقه وتنوعها بتنوع المواقف والأحداث كما بينها القرآن الكريم، ولما غيب المؤرخون الصورة الحقيقية لقصة المبعث اخترعوا واختلقوا صوراً أخرى مليئة بالرعب والقسوة ومشوبة بالاضطراب، وكأن الغرض من تكليف النبي بالرسالة هو بث الخوف في قلبه من قِبل المَلَك النازل عليه بوحي الله.
ولم يتوقف الأمر عند ما يرسم المؤرخون لجبريل (عليه السلام)، إذ جعلوا مهمته فقط محصورة في إظهار قوته لإرهاب النبي والقسوة عليه لدرجة يستحيل قبول تلك الفظاظة التي قدموا فيها أمين وحي الله من خلال تعامله مع النبي (صلوات الله عليه) كما يقول السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي: "بحق تلميذ من أستاذه"، فكيف نقبل ذلك ونستسيغه بحق رسول الله وأمين وحي الله النازل بالحق من ربه على قلب نبينا؟!
وهكذا، لقد نيل من كل ما له مقام من القداسة من قبل المؤرخين سواءً ما كان متعلقاً بالله وملائكته أم بنبيه الكريم ورحمته للعالمين (صلى الله عليه وآله). لقد قدموا لنا النبي في هذه الرواية شخصاً لا يثق بربه ولا بنفسه، يعيش الحيرة والتخبط وليس لديه أي مقومات وسمات شخصية تدلل على أن الله اصطفاه رسولاً للعالمين، مع أنه قد رأى حقاً، لكنه يظل مذعوراً يعيش الرعب في خفقة قلب ورجفة فؤاد، والعياذ بالله، إلى مستوى أن يصل إلى الخشية على نفسه من أن يكون قد تعرض لمس من الجن لولا تثبيت خديجة له بكلامها الوارد في الرواية التي لا نزال بصددها، وليس ثمة شيء يجعلنا ندرك مناسبة هذا الكلام وبين قول النبي إنه يخشى على نفسه، فهل لتلك الأعمال علاقة بمنع المس وحدوث ذلك العارض؟! وهل خديجة تثق بالله وتعرفه أكثر من ثقة النبي به ومعرفته له سبحانه؟! بل تذهب بك الرواية أبعد من ذلك بكثير، إذ تُظهر لك رسول الله متخبطاً وجلاً، لا يدري ما الذي يفعل، ولكي يعرف مهمته ودوره وطبيعة ما يأتيه تأخذه خديجة إلى ورقة بن نوفل الذي تفترضه القصة نصرانياً فيخبره أنه نبي، واللافت في هذا الأمر أن الأسطورة "ورقة" الذي جُعل بطلاً لهذه القصة لم يقل للنبي هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى ولم يذكر عيسى بشيء، لا من قريب ولا من بعيد، مما يجعلك تتيقن قطعاً أن اليهود وراء هذا الدس والتحريف لتاريخنا وتراثنا، كما يوحي الاستشهاد بما كان يأتي موسى وعدم إيراد اسم عيسى بأن الوضاعين ليسوا على مستوى حتى ولو مقبول في مجال المعرفة والثقافة، وهناك أيضاً فيما يتصل بـ"ورقة" أشياء كثيرة، منها: 
ـ من أين علم ورقة بن نوفل هذا بأن قريش سيخرجون النبي من مكة، ومن المعلوم أن الكتب السماوية السابقة لم تكن تقدم سيرة ومسيرة رسول الله (صلوات الله عليه وآله) بهذا الشكل الذي علمه ورقة، بل كانت تورد الخصائص والسمات العامة في الشخص والدور والرسالة والأتباع؟!
ـ كيف يقول ورقة: "وإن يدركني يومك لأنصرنك نصراً عزيزاً"؟! أوليس قد أدركه يومه، فها قد بعثه الله، وما ذلك اليوم الذي التقى برسول الله إلا يوم من أيام زمن البعثة، هذا لو سلمنا جدلاً بأن ورقة حقيقة وليس أسطورة وفخ من أفخاخ الدخول لكثير من الإسرائيليات إلى التاريخ الإسلامي؟!
وبقي فقط أن نتساءل في سياق حديثنا عن ورقة حول جانبين، هما: 
ـ لو أن طاعناً بالسن قد ذهب بصره وخف سمعه ورق عظمه وكثرت أسقامه قال لأحدنا: سوف أنصرك نصراً عزيزاً في قضية حربك ومواجهتك للعدو، أليس ذلك موجباً للضحك حتى الإغماء؟! فما بالنا نقبل ذلك على رسول الله ونرويه بدون وعي واستيعاب لحجم خطورة هذا القول وسذاجته التي لا يقبلها المجانين ناهيك عن العقلاء؟!
ـ وأخيراً: لماذا لم يسجل التاريخ من حياة ورقة سوى هذا اليوم؟! أين مات؟! ومتى؟! ومن هم ذريته؟! وماذا فعل بعد ذلك اليوم؟!
وبقي فيما يتعلق بهذه الرواية أن نعرف أن الله الكامل في عظمته وملكه وعلمه وقدرته وتسييره لكل هذا الكون بما فيه، ورعايته لكل مخلوقاته، لا يختار لإبلاغ رسالته إلى عباده إلا من كان لديه القابلية لحمل هذه الرسالة وتجسيد صورة الكمال في التبليغ والالتزام والثبات والجهاد، لتبقى وتقوى وتمتد وتتسع ساحة انتشارها أكثر فأكثر. ثم إن الله عندما يصطفي رسولاً هو يتولى بناءه وتربيته والعناية به والرعاية له "ولتصنع على عيني"، وبالتالي فهو سبحانه يعطيه من البينات ويمنحه من البراهين ما يجعله بدون حاجة إلى الرجوع إلى نفسه لتعينه على إثبات نبوته، فكيف أن يعتمد رسول الله على خديجة أو ورقة بن نوفل لمعرفة هل هو نبي أم لا؟!!

أترك تعليقاً

التعليقات