المرأة والنهضة الحسينية ... أدوار متعددة لتحقيق التكامل البشري
- سرور عبدالله الجمعة , 20 أغـسـطـس , 2021 الساعة 8:08:37 PM
- 0 تعليقات
سرور عبدالله / لا ميديا -
قبل أربعة عشر قرناً وتزامناً مع ظهور الإسلام رسالةً إلهية تضمنت كل متطلبات البناء للإنسانية أفراداً وجماعات رجالاً ونساءً، وعلى يد أكمل الخلق وأقربهم وأحبهم إلى الله محمد صلى الله عليه وآله، تم تشييد صرح الإسلام القوي والشامخ والراسخ كبنيان التقى في تحقيق إقامة لبناته جميع الذين تعطشوا للحق والعدل والحرية، ورغبوا في تحطيم قيود وأغلال التبعية العمياء والظلم والطغيان وبقية الجوانب المعبرة بمجموعها عن مجتمع جاهلي تخثرت فيه القيم وانعدمت في جميع ساحات بنيه كل قيم الخير ومقومات العدل والحق بكل معانيه وسياقاته.
مــن هنـا استطاع النبي صلى الله عليه وآله إيجاد عوامل صنع وتكوين الحياة الإنسانية المثلى، التي تجسدت بوجود المجتمع الإنساني المتكامل، الذي لا مكان لديه للفوارق الطبقية والعرقية، وليس فيه أدنى وجود لمحدودية النظرة وضيق الأفق، التي تقوم على حصر الدور والمهمة في مجال القيام بالمسؤولية وأداء الواجب في ترجمة التكاليف الرسالية بكل معانيها وسياقاتها إلى واقع على فئة أو جماعة، أو على الرجال دون النساء، بل جعلت الجميع مسؤولاً ومعنياً بالسعي لتحقيق التكامل في سبيل النهوض بهذه الأمة، وتعميم نور الله على كل هذه الأرض.
انطلاقاً من كل ذلك برز دور المرأة المسلمة المتحركة الواعية المجاهدة في ساحة العمل لإعلاء كلمة الله ونشر دينه وتعميم مفاهيمه في بدايات تشكل النواة الأولى لهذا الدين، بدءاً بتشكل مجتمع النهوض بواجب الدعوة في مكة وصولاً إلى مرحلة بناء الكيان الإسلامي من خلال إيجاد البيئة الحاضنة التي على عاتقها وضعت مهمة بناء الدولة.
ولا تكاد تمر على مرحلة من مراحل الرسالة المحمدية إلا وتلتقي بنماذج عظيمة بلغت أعلى مراتب السمو والرفعة ونالت بجهدها وجهادها وثباتها وصبرها كل محققات حصول الكمال الإنساني من الرجال والمرأة. ومن يتأمل في مسيرة الرسول وحركة الرسالة يشعر بالدهشة والاستغراب، إذ كيف استطاعت الدولة الوليدة التي تكونت في المدينة المنورة أن تصنع كل تلك التحولات الكبرى لاسيما في ما يتعلق بالمرأة ودورها؟!
ولكن تلك الدهشة وذلك الاستغراب يزولان عندما يتعرف الفرد منا على عوامل النهوض التي اتبعها الإسلام تجاه المرأة، تلك العوامل المحققة لتغيير جذري في المفاهيم والتصورات التي شكلت نظرة المجتمع الخاضع لمعاني الجاهلية ردحاً من الزمن، وبالتالي فقد جاء هذا الدين واستطاع وضع مقاييس ومعايير تحكم النظرة للمرأة وتضبطها بما ينسجم وروحية الرسالة السمحاء، ويعبر عن استيعاب كل التعاليم التي جاء بها كتاب الله الكريم، التعاليم التي لم تقف عند مستوى رسم حدود النظرية وتشكلاتها، بل إنها اكتسبت كل ضروريات الديمومة والبقاء والاستمرارية من واقع تحرك لرسول الله صلى الله عليه وآله، ذلك التحرك الذي قدم الجانب التطبيقي والعملي لتلك النظرة في كل مجالات الحياة وأحداثها.
فقد طبق رسول الله في هذا السياق أرقى الأساليب وأكثرها فاعلية، فإننا نجد من جهة النظرة على سبيل المثال لا الحصر أن النبي اتجه في تبليغ كل تعاليم الإسلام للناس كافة، وفقاً للنظرة الواقعية الإيمانية التي تقوم علـــــى أساس الاعتبـار للوحــــدة الخلقية لجميع الناس فالناس، جميعاً ينتمون إلى الأصل البشري الواحد: "والله خلقكم من نفسٍ واحدة". كما أن هذه التعاليم الإلهية استطاعت أن تتخطى كل الفوارق الموجودة بين الناس، سواءً بين مكون الرجال والنساء بوجه عام أم بين المرأة والرجل بوجه خاص، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ثم إن تلك التعاليم المهمة في ديننا ألقت بمهمة القيام بتبليغ كل مفاهيم الإسلام على الجميع، باعتبار تلك المهمة أمانة من الله تُلزِم القيام بها جميع بني البشر، كونهم خلفاء لله في أرضه: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..."، رجلاً كان أم امرأة، لأن القضية قضية رسالة، ولذلك يجب بناء مسيرة البشرية على أساس النهج الذي جاءت به الرسالة. وهكذا قدم رسول الله صورة التمثل لكل تعاليم القرآن الكريم حول المرأة، ولم يكتف صلوات الله عليه وآله بتبليغ تلك التعاليم بلسانه، بل بلغها باللسان وعززها في الذهنية المسلمة بالخطوات والممارسات العملية وفي جميع السلوكيات ومختلف المواقف والأوضاع الحياتية، فقد برز مسعاه الكريم في تجلي دور الزوجة المتمثل بخديجة أم المؤمنين (عليها السلام)، ثم بدور البنت المتمثل بفلذة كبده سيدة نساء العالمين الزهراء فاطمة عليها السلام، ثم امتد ذلك النموذج ليتجسد في واقع امتداد الرسالة بحفيدته العقيلة زينب (عليها السلام)، مما أدى إلى حصول التطلع والاقتداء من قبل المرأة في كل عصر للخروج من مستنقعات الضلالة ورواسب الجاهلية.
ولم يضع النبي صلوات الله عليه وآله حداً أو فاصلاً زمنياً بين تحرك مسلمة أو المسلم، بل إن جميع مراحل الرسالة توحي بأنه صلوات الله عليه وآله قد جعل المجال مفتوحاً لتحرك المرأة مع أخيها الرجل في كل مجالات الحياة، وفي كل الساحات التي يقتضي العمل والتحرك فيها لأجل الحق واستكمال مداليل بنيان رسالة الله للعالمين. وقد كانت المرأة تلتقي برسول الله لتعبر عن انتمائها واختيارهـــــا، وكانت تطرح عليه تساؤلاتها وتفصح بين يديه عن مواقفها وهمومها وتطلعاتها، حتـــى في السنوات الأولى التي مثلت المرحلة الأصعب والأشد فيما احتوت من أحداث واشتملت عليه من أخطار وتحديات تهدد مجتمع الإسلام الذي لا يزال بمرحلته الأولى. كما أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله حافلةٌ بالكثير من الدلالات التي تبرز مساعيه عليه الصلاة والسلام في محو كل ما علق بأذهان بعض الصحابة من رواسب الجاهلية حول المرأة وتقديم تصور الإسلام والحث على التزامه.
ولا شك بأن ذلك النهج الإسلامي العظيم قد مكن نساء الإسلام من النهوض والرقي والسمو بما تتطلبه حركة الرسالة، وتقتضيه المسؤولية في حملها وعياً وفاعليةً والتزاماً، الذي شهدنا بموجبه وجود النموذج الحضاري المقدم للمرأة في كل عصر من خلال بروز التكامل الذي وفقه استطاعت المرأة المسلمة أن تقوم بواجبها جنباً إلى جنب مع الرجل، ولم يكن الرجل سابقاً لها أو متميزاً عنها بأي مقام أو موقف، إذ إن كل ميدان من ميادين الجهاد والصبر والدعوة والإنفاق شهد حضور المرأة في سلسلة أسماء حظيت بشرف التضحية ونالت وسام الشهادة، وتقاسمت مع الرجل كل صنوف المعاناة والعذاب، وبقيت ثابتة في وجه كل التحديات راسخة ومتماسكة أمام كل العواصف.
من هنا يجب العودة لكل تلك الشواهد المشرفة لنقتبس من نور تلك النسوة اللواتي يمثلن الشموس المتوهجة بالضياء والنور والمشعة بقبسات الحق في جوانب الالتزام والوعي والهداية، ليتحقق لنا كمسلمات الخروج من قمقم انسحاق الذات ونكرانه الذي فرض على المرأة المسلمة اتباع الغرب والانبهار بشعاراته والانجذاب لدعواته نتيجة ما أوجده الفهم القاصر للدين لدى المسلمين من قهر وعسف بحق المرأة ونكران وجهل بقيمتها ومقامها ومهمتها ودورها، وكل ذلك نظراً لشيوع الثقافة المغلوطة وهيمنة حاكميتها على السواد الأعظم من المسلمين الذين بدورهم فرضوا ما اقتنعوا به على كل من حولهم وألزموا بما التزموا به كل من حولهم، لذلك كان لا بد من العودة إلى النهضة الحسينية في كربلاء ويوم عاشوراء، باعتبــــار ذلـــك المكان في ذلك اليوم والزمان مثل بقيادة سيد الشهداء كمال دين الله والمظهر الحق لسيرة ومسيرة رسول الله ورسالة الخالق لجميع عباده، ليتم لنا من خلال النهضة الحسينية الحصول على ذواتنا وهويتنا بما سنجده من قالب الكمال الذي يدفعنا لننصهر بعطاء الكوثر، مشكلين بذلك وحدة الأصل البشري ووحدة الغاية من خلقنا والهدف من وجودنا على هذه الأرض.
لماذا كربلاء الحسين تحديداً؟
ولم يكن اختيار النهضة الحسينية والثورة الكربلائية لمعرفة كيف يجب أن تكون المرأة المسلمة من خلال القدوة والنموذج المقدم من قبل المرأة الكربلائية اختياراً هامشياً أو من قبيل الصدفة والحظ، بل كان الاختيار مدروساً ولا بد منه، لأن ثورة كربلاء والنهضة الحسينية استطاعت تقديم صور كثيرة ومتعددة ومتنوعة للمرأة المسلمة، سواءً في مقام الدعم والمساندة أم في مجال النصرة والمشاركة المباشرة في ساحة المعركة والتعرض للتعذيب والقتل مثلها مثل الرجل، بما يعطي المتتبع لأحداث عشوراء ومأساة كربلاء حقيقة ما أراد الإسلام من المرأة وطبيعة الدور والمقام الذي أوجب عليها القيام به والوصول إليه، وبكربلاء ونماذجها المشرفة والعظيمة من النساء نستطيع اليوم محاجّة من يريدون للمرأة أن تظل حبيسة الجانب الأنثوي، والذي يمنعها من القيام بأي دور لخدمة دينها ومجتمعها والتعبير عن قناعاتها ومواقفها، وتقديم خبراتها وقدراتها الفكرية والعلمية وغيرها في ساحات الجهاد والبناء.
وللأسف، فقد بدأ ينتشر مرض خطير في سوق العمل الإعلامي وبعض مؤسسات الدولة، هذا المرض بات يجعل من وجود المرأة في المذياع والتلفاز والصحيفة جريمة، كما أن العمل في الوظيفة العامة جريمة كذلك، ولا يكاد يمر وقت إلا ونسمع عن تصريف نساء في هذا القطاع وتلك المؤسسة مع التبريرات السخيفة والتحليلات المنحطة والوضيعة التي تدعم مثل هذه الخطوات التي لا تمت للإسلام المحمدي بصلة، وإنما هي نتيجة بقايا ترسبات للثقافة الوهابية والتشريعات الهنفرية والممارسات السعودية المبينة في إخوان من أطاع الله وهيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف التي انقلبت إلى هيئة للتهتك والفجور والرذيلة.
من هنا وجب الوقوف مع الحسين لدحض تلك الشبهات وإبراز ثقافة الإسلام المحمدي الأصيل في نظرته للمرأة في مواقف عملية لأكثر من امرأة في كربلاء وتحت قيادة سيد الشهداء...
نساء مع الحسين حين خذله الرجال
ذكرتُ في المقال السابق أن العودة إلى ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ضرورية لكي نتمكن من استلهام كل دلالاتها، باعتبارها تمثل الإسلام كما هو وكما يجب أن يكون. كما أننا سنجد أن ساحة كربلاء شهدت وجود الكثير من النماذج النسائية الجادة والعظيمة والمثالية، تلك النماذج نهضت بدورها وبصور مختلفة بعيداً عن أي تبعيةٍ عمياء لسلطان الزوج أو الأب أو الأخ، وكذلك بعيداً عن الخضوع لنزعات الهوى أو العصبية، وإنما كُنَّ بحق المعنى التام للإنسان الذي تعكس مواقفه المظهر الصادق لسلامة الجوهر وسمو النفس وحياة الضمير وطيب المنبت وعمق النظرة الواعية للمصير ومعرفة الحق والعمل لهدف نبيل ومعرفة الطريق والتزام الغاية لأجل بلوغ المراد والوصول للمطلوب الوصول إليه، كل ذلك نتيجة قوة الإيمان الذي كُنَ ينعمن به، لأنهن لم يخفن من كل وسائل البطش والتنكيل التي كان يستعملها سلطان الطاغوت الأموي، ولم يكترثن بكل ذلك الجو الحاد الذي يضج بكل معاني التهديد والوعيد تجاه الحسين وأهل بيته ومناصريه.
وقد توزعت أدوار البطلات الكربلائيات بحسب ما اقتضته الحاجة وأملاه عليهن الضمير واستدعاهن إليه الموقف. وبالإمكان أن نضع بين يدي القارئ صوراً من أمثلة حية لتلك النسوة اللواتي، بالطبع، يمثلن الشاهد على النموذج النسائي الحاضر في مذبح الفداء لسيد الشهداء. ولا يعني ذلك أن هؤلاء النسوة هن فقط من اقتصر دور المسلمة عليهن في كربلاء، وإنما، على سبيل المثال لا الحصر، جمعنا هذه الأمثلة التي نعرضها كما يلي:
المرأة الدافعة إلى الحق والمحفزة على اتباعه
دلهم بنت عمرو، زوج زهير بن القين، استطاعت بحرصها ووعيها وبصيرتها ونفاذ رؤيتها ومنطقها القوي ونظرتها الأبعد أن تأخذ بيد زوجها من طريق الباطل إلى طريق الحق، ومن درب الضلالة والغواية والفساد إلى درب السعادة والهداية والرشاد. فقد شهرت كلمتها الصادقة من غمد الفكر المستبصر سلاحاً لمساندة الثورة الحسينية، حيث التقت وزوجها مع الركب الحسيني الذي ضرب «فسطاطه» بالقرب من فسطاط زهير وجماعته. ومن لا يعرف «زهير» وهو الذي ولاه سيد الشهداء قيادة الميمنة في يوم عاشوراء، وهو صاحب الكلمة المشهورة التي قالها بين يدي الحسين عليه السلام: «والله لو كنا في هذه الدنيا مخلدين إلا أن فراقها في نصرتك ومواساتك لآثرنا المضي معك على البقاء فيها»؟! فكيف أصبح بهذه الروحية وهو ذلك الذي كان يسير من قبل في الاتجاه المعادي للحسين وثورته؟!
إنها الكلمة المخلصة التي انبعثت من فم زوجه، التي صنعت كل هذا التحول والتغير الذي أكسب زهيراً الخلود في ضمير المحقين والفوز بالحياة السعيدة في رحاب رب العالمين. وقد قال أحد من كانوا مع زهير في رحلة عودته من الحج ولحظة لقائه بالحسين: «والله لم يكن شيء أبغض إلينا من مسايرة قافلة الحسين حتى إذا نزلنا منزلاً لم نجد بداً من أن نجاوره فيه، وبينما كنا جلوساً نتناول طعامنا إذ أقبل رسول الحسين فقال: يا زهير إن الحسين بعثني إليك لتأتيه. فوضع كلٌّ منا ما في يده وساد الصمت الرهيب في الخيمة حتى كأن على رؤوسنا الطير، ولكن زوج زهير حين رأت زوجها مطرقاً يعتريه الصمت والذهول مزقت ذلك بقولها: يا زهير، سبحان الله، أيبعث إليك ابن بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟! لو أتيته وسمعت كلامه، ثم انصرفت». ويضيف أن كلمة المرأة كان لها وقع عجيب في نفس زوجها، فما إن اكمل زهير الحديث مع الحسين حتى اتخذ قراراً حاسماً وضع فيه حداً لحياته السابقة وعاد إلى قومه مستبشراً.
وهنا تقول زوجه: «ثم تنحى بأخي جانباً ليطلب منه إعادتي إلى أهلي»، فيرد قائلاً: «لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خيراً، فلقد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بروحي وأقيه بنفسي». عندها أبت الزوجة الصالحة إلا أن تكون الدالة على الخير والحق والعاملة بهما، حيث قالت: «يا زهير، ألم أكن لك نعم الزوجة؟! فأجابها: بلى والله. فقالت له: إذن دعني أربط مصيري بزينب كما ربطت أنت مصيرك بالحسين».
المرأة الداعمة والمساندة باللسان والمال
مارية بنت منقذ العبدية، كانت هذه المرأة تعيش الولاء والمحبة والنصرة لآل بيت الرسول صلى الله عليه وعلى آله، وكأن ذلك معجون في طينتها ومتوزع في كل خلايا جسدها وجارٍ في كل قطرة من دمها ومالئٌ عليها حياتها، بل قل هو حياتها الحقيقية، فهي تعبر عن ذلك بكل خفقة لقلبها وهزةٍ من شعورها وانبعاثٍ من أحاسيسها، وقد عمدت شهادة استحقاقها لمرتبة الشرف في مقام التشيع بالدم، إذ سبق لها أن قدمت زوجها وأربعةً من بنيها شهداء في صف إمام المتقين وسيد الوصيين في معركة صفين، ولم تكتف بذلك ولم يتسلل الحزن أو الندم إلى قلبها نتيجة فقدانها كل ذويها ورحمها وبقائها وحيدة، بل ظلت الثورية الشجاعة الصابرة المحتسبة المستعدة للتضحية والبذل على أي حال.
فبعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) واستشهاد الإمام الحسن (عليه السلام) قام بنو أمية بملاحقة شيعة أهل البيت ومارسوا بحقهم أبشع أنواع العذاب وشتى صنوف التنكيل والإبادة، وفي هذه المرحلة التي كانت تسمل فيها عيون شيعة علي وتقطع أرجلهم وأيديهم وألسنتهم ويصلبون على جذوع النخل ويتجرعون الويلات والمرارات، برزت مارية العبدية التي جعلت من بيتها مكاناً لاجتماع المحبين للإمام علي والصادقين في توليه، وكان بيتها مقراً لانعقاد المؤتمرات والجلسات لمناقشة كل المستجدات، وقد وظفت ما ورثته من مال أبيها وزوجها الشهيدين في سبيل الله ونصرةً لأئمة الهدى من العترة الطاهرة، وحينما وردت على أعيان الكوفة أخبار مقدم الحسين (عليه السلام) دب فيهم التخاذل والوهن والعجز والاستسلام، إذ كان الصمت مخيماً عليهم، فاقتحمت عليهم ذلك المجلس، مبددةً باقتحامها كل الصمت والخدر والتراجع فيهم، حيث قالت: «لقد سمعت أن الحسين ابن بنت نبيكم استنصركم، فما بالكم لا تنصرونه؟!»، فبدت على الجمع دلالات التأثر من مقالها وأبدوا لها اعتذارهم لعدم توفر السلاح والراحلة ليقوموا بذلك، عندها سارعت لإخراج كل ما لديها من مال ووضعته بين أيديهم وهي تقول: «ليأخذ كل رجل منكم ما يحتاجه من هذا المال وينطلق لنصرة ابن بنت رسول الله».
المرأة المجيرة والحامية لسفير سيد الشهداء
وهنا نلتقي بنموذج آخر لسيدة مؤمنة آوت ونصرت وحمت سفير الحسين وممثل ثورته «عليه السلام» مسلم بن عقيل. إنها طوعة الكوفية [رضوان الله عليها» التي قامت بالدور الذي عجز عنه مجتمع الكوفة الذين تفرقوا عن مسلم بن عقيل بعد صلاة العشاء، بعد أن وصلهم تهديد ووعيد ابن زياد.
وقد بذلت هذه المرأة كل ما بوسعها لحماية القائد الحسيني مسلم بن عقيل، بعد أن تقاذفته سكك الكوفة، وأوصدت دونه دورها وبيوتاتها، وتنكرت له كل وجوهها وأعيانها، وبات الكل مستسلماً خاضعاً للظلم متجرداً من القيم نتيجة انسحاق الذات وتسرب الهزيمة إلى دواخل النفوس، ما عدا هذه المرأة التي لم تكترث بابن زياد ولم تستسلم لنوازع الخوف لو انفضح أمرها، بل مضت بكل صلابة لا تخاف ولا تخشى إلا الله، ويكفيها شرفاً أن التاريخ لا يزال يخط اسمها بأحرف من نور، كونها المرأة التي قامت بدور لم يستطع القيام به كل بني مجتمعها الخانع المتخاذل الذليل المرهوب، فكانت امرأة بكل رجالات مجتمع الكوفة دوراً وشجاعة وموقفا.
المرأة المستنهضة والداعية للنفير
زوج حبيب بن مظاهر، تلك العظيمة التي وبخت زوجها بكل عبارات التوبيخ وبأسلوب يستفز الجماد، ويحرك الصم الصلاب، إذ لمست فيه عدم السرعة في الاستجابة لنصرة الحسين، فبعد أن وصل رسول الحسين ظل حبيب بن مظاهر مطرقاً لا ينبس ببنت شفة، فدخلت عليه وهي تقول: «إن أنت يا حبيب لم تدفعك جرأة الحق لنصرة الحسين وخذلان أعدائه فدعني ألبس ثيابك وأنطلق بها لنصرة أبي عبد الله أذب عنه وأموت دونه»، مع أنه لم يكن جباناً ولم يصبه التردد والخور، لكنه كان يفكر في كيفية الخروج لنصرة الحسين والكوفة تحت الحصار من جيش بن مرجانة، وقد تم لحبيب وزوجه الشرف بالالتحاق بالركب الحسيني، فحين وصلا استقبلتهما العترة الطاهرة استقبالاً ينم عن مستوى ما بلغه حبيب وزوجه من المحبة والنصرة لأهل البيت.
ختاماً: لعل ما قدمناه لم يكن مستوفياً لحضور وفاعلية المرأة في كربلاء بشكل عام وشامل، ولكنا أردنا فقط وضع القارئ أمام بعض ما اجترحته المرأة في النهضة الحسينية، ليكون ما قدمناه دافعاً للدخول في رحاب التمثل للإسلام المحمدي الأصيل الذي يضع التكليف للنهوض بالمسؤولية فيما يتعلق بالحياة وبالمصير على الإنسان كوحدة واحدة رجلاً وامرأة، أم أن المنظرين اليوم والمبتلين بالفهم القاصر للدين يرون أنفسهم أحرص على التزام الحق والفضيلة أكثر من حرص سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام)؟!
المصدر سرور عبدالله
زيارة جميع مقالات: سرور عبدالله