الغدير بين وحي الله وحديث رسوله
 

سرور عبدالله

سرور عبد الله / لا ميديا -
في يوم الثامن عشر من ذي الحجة من كل عام، اعتاد اليمنيون وكثيرون من أحرار العالم الإسلامي إحياء والاحتفال بمناسبة تاريخية ودينية مهمة وعظيمة، هي مناسبة يوم الولاية، اليوم الذي أعلن فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولاية الإمام علي (عليه السلام) على هذه الأمة، وهو اليوم الذي أكمل الله  فيه دينه الذي ارتضاه لعباده وأتم فيه نعمته سبحانه عليهم.
 من هُنا توجب علينا الفرح، باعتبار ذلك اعترافاً بكمال الدين وتمام النعمة، وإقراراً منا بالفضل والرحمة واللطف الذي امتن به الله علينا في هذا اليوم العظيم المعدود بحق عيد الله الأكبر، وليست التسمية هذه تسمية ذات طابع مذهبي أو طائفي، بل هي تسمية ذات بعد إيماني واعٍ تتجلى بموجبها حقيقة المعرفة بالدين وعظمته وكيفية الالتزام به وحمله وتمثله بكل مداليل الكمال وتقديمه بما يؤكد صحته وسلامته ويبين حقيقة إتيانه من الله سبحانه وليس من صنع البشر.
فيا ترى ما الذي جرى في هذا اليوم؟ وأين جرى كل ذلك؟ وما علاقة ذلك بالتشريع والمسيرة الرسالية بكلها؟ وما هي الدروس والعبر التي نستفيدها من هذه المناسبة؟ وما هو الذي يجب القيام به في كل حياتنا، لاسيما إذا اعتبرنا هذه المحطة الدينية والتاريخية منطلقاً ننطلق منه لنصحح ما فسد من واقعنا، ونُقوم ما اعوج من نفوسنا، ونعزز الاهتمام بما أغفلناه في كل مسيرة حياتنا، سواء ما كان له علاقة بالمبدأ أم المعاد، فضابط حركة السير في الحياتين والعمل لنيل السعادة والفوز والفلاح في الدارين هو جانب استشعار العبودية المطلقة لله تعالى والخضوع له رغبة بما عنده وحرصاً على نيل رضاه وخوفاً من عقابه والعمل المستمر لتجنب الوقوع فيما يوصلنا إليه ويجعلنا من مستحقيه والداخلين فيه بعد حصول غضب الله علينا وانتفاء رحمته بنا.
وعليه فقد آثرت في هذه القراءة أن أنطلق من الآية (67) من «سورة المائدة» وأحاول تقديم بعض من دلالاتها وما توحي به، ثم نتجه لنرى مدى استجابة رسول الله لأمر ربه وكيفية التبليغ ومظاهره، وأخيراً نرى مدى الترابط بين حديث الولاية وآيتي الولاية، وهما الآيتان (54) و(55) من «سورة المائدة».

إيحاءات النص القرآني ودلالاته
لما استكمل رسول الله صلوات الله عليه وآله مع جميع المسلمين الذين كانوا معه في حجة الوداع جميع مناسك حجهم، وبعد بيانه لهم أنه قد لا يلقاهم بعد عامه هذا وتقديمه بين أيديهم خلاصة ما استقام عليه هذا الدين وطبيعة ما يترتب على الالتزام به والتخلق بأخلاقه في كل شؤونهم ومختلف مجالات حياتهم، توجه الجميع للانصراف عن مكة البيت الحرام والعودة إلى بلدانهم، ولكن في طريق العودة وفي واد يقال له «خم» في منطقة قريبة من مكان يقال له «الجحفة» وهو إلى مكة أقرب منه إلى المدينة، نزل الوحي من الله على رسوله بأمر إلهي في غاية الأهمية، وهذا ما يظهر بقوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين».
عندها يُصدر الرسول أمراً إلى الحجيج بالتوقف، باعثاً رجالاً لإعادة من قد تجاوزوا هذا الوادي وآخرين لحث من لم يصلوا بعد إليه للإسراع كي يشهدوا بلاغ النبي لأمر الله الصادر منه إلى رسوله والموجب عليهم كمسلمين القيام بتنفيذه والعمل به. لكن ما هو هذا الأمر الذي حوى كل دلالات الحسم واشتمل على كل مقتضيات الشدة وخلا من كل ما يوحي بالرحمة من الله واللطف بنبيه الكريم ورسوله الرحمة للعالمين: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته». الأمر جد خطير وجد مهم والقضية حاسمة لا تحتمل التأجيل، لكن ما هو هذا البلاغ؟ هل هو متصل بالعقيدة من ناحية التوحيد والشرك؟ بالتأكيد لا، لأن الجزيرة العربية باتت دار توحيد ولم يعد للشرك وعبادة الأصنام وجود، فمكة فُتحت ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعلت راية «لا إله إلا الله»، وإن قلنا بأن هذا البلاغ الحاسم الشديد اللهجة يتصل بالجانب الاجتماعي والاقتصادي والأمني وغيره مما له علاقة بشؤون الناس وتعاملاتهم مع بعضهم وتنظيم علاقتهم مع الفئات الأخرى وجدنا الواقع فيما قد بلغه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد بلغ كل ذلك وبينه وربى الناس عليه ورغبهم في العمل به. وكذلك لا يوجد هنالك شيء فيما يتعلق بمظاهر استكمال بناء المجتمع الإسلامي فرداً وجماعة وأمة ودولة وهذا واضح، حتى أنهم كانوا يقولون في حجة الوداع وفي خطبة رسول الله بهم في عرفة يوم الحج الأكبر عندما استشهدهم فيما يتعلق بإبلاغ رسالة الله: «نشهد إنك يا رسول الله قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت لهذه الأمة».
فما دام الأمر كذلك فما هو الذي يوحي به قوله تعالى: «وإن لم تفعل فما بلغت رسالته»، وقوله: «والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين»؟
لعل القضية كما بينها الكثيرون هي قضية الاستمرارية للمسيرة الرسالية والحفاظ على سلامة بنيان هذا الدين وضمان تعميم مفاهيمه وإنارة الدنيا بكلها بنوره. وهذا لا شك يحتاج لشخصية عظيمة تحمل نَفَس رسول الله وتعيش بروحيته وتعكس فكره وتعبر عنه، لأن القضية تتعلق بمستقبل أمة هي آخر الأمم ونبيها خاتم النبيين، ولذلك كان لا بد من تعيين إلهي خص الله النبي بتنفيذه بشهادة عشرات الآلاف من المسلمين وعلى مرأى ومسمع الجميع، وقيمة ذلك أن بقاء الدين صحيحاً وسليماً متوقف عليه، إذ لا قيمة لصبر وجهاد ودعوة وتضحية ومعاناة رسول الله ما لم يبلغ هذا الأمر، فبه وحده يتم الدين وتتم النعمة وتسود رسالة الحق ويفرض سلطان الله من خلال من ارتضاه لعباده وأقامه عليهم ولياً وإماماً وحاكماً.
ولعل التنبيه هنا مهم لإزالة اللبس لدى القارئ فيما يتعلق برسول الله، هل كان لديه شيء يوحي بعدم القيام بالتبليغ لهذا الأمر؟ حاشا لله أن يكون النبي كذلك، ولكن حكمة الله قضت بهذا الخطاب لكي يعي المسلمون فحواه، ويقوموا به كما أراد الله الذي لم يتساهل حتى مع نبيه فيه أبداً، وهو من هو صلوات الله عليه وآله في كل حياته وشخصيته كمالاً وصبراً واستقامة وتقوى وخلقاً ورحمة وعفواً وبراً وإحساناً وعبودية وعبادة لله تعالى، فكيف بسائر المسلمين؟! ثم نطالع قوله تعالى: «والله يعصمك من الناس»، ومن خلال ذلك نتأمل فيما هو هذا الأمر الذي يعد الله نبيه بأن يحميه من الناس ويمنعه عنهم، وأنت حين تعود إلى بدايات الدعوة والأخطار تحيط بالرسالة من كل جانب لم تجد في كتاب الله مثل هذا الوعد بالحماية، بل كان الأمر ينزل من الله إلى رسوله والنبي ينفذ راغباً مستجيباً مؤمناً لا يبحث عن حماية للذات، بل يجعل من الذات حامياً للرسالة ويجعل من حياته مثالاً عملياً يشرح ما احتوته الرسالة التي كلفه بها ربه، ولذلك قيل عنه صلوات الله عليه وآله إنه كان قرآناً يمشي على الأرض، ثم من هم هؤلاء الناس الذين وعد الله نبيه بأن يعصمه منهم ولاسيما والجزيرة العربية لم يعد فيها مشركون ولا يهود يشكلون خطراً على رسول الله، وهنا نحاول تقديم تفسير تقريبي على ضوء ما اطلعت عليه من إيضاحات في أكثر من مصدر وعلى أساس استنطاق متعلقات هذا الأمر فيما يعبر عنه هذا النص ومرحلة نزوله، والذي يوحي بكل وضوح ودون أدنى شك بأن الحماية التي وعد الله بها نبيه عليه وآله أزكى الصلوات هي حماية مما ستناله به ألسنة المتربصين بالرسالة والمتحينين فرصة التحاق النبي بالرفيق الأعلى والذين -بحسب ما يبينه «شريعتي» في كتابيه «سيماء محمد» و»التشيع العلوي والتشيع الصفوي»- كانوا قد تحالفوا منذ البداية على السيطرة على كل ما يتصل بدولة الإسلام، وكان غالبيتهم من التجار، بالإضافة إلى دخول مكون جديد إلى الإسلام، وهذا المكون هو ما يعرف بالطلقاء، الذين كان دخولهم في هذا الدين دخول عجز واستسلام أمام الأمر الواقع لا نتيجة قناعة صادرة من دواخلهم، وهؤلاء مجتمعين سيشكلون عائقاً أمام الإبلاغ من رسول الله لأمر ربه، لا سيما وأن من اختاره الله كخليفة لرسول الله ولياً للمؤمنين هو علي (عليه السلام) صهر رسول الله وابن عمه وأخوه وأقرب الناس إليه، وهذا سيدفعهم للتشكيك بالأمر والتشويش على بقية المسلمين فيما له من أثر على حياتهم بشكل عام وعلى قضية سلامة الخط بشكل خاص، وهكذا ضَمِنَ الله الحماية لرسوله منهم وسماهم القوم الكافرين لرفضهم أمر الله ومخالفتهم لأمر رسوله صلى الله عليه وآله ومجانبتهم ما اختاره الله لهم واختيارهم غير ما اختاره الله، قال تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم»، ولكنها العصبية التي تنتج عن حقد وتعبر عن حسد مضطرم داخل النفس مما يوجد العمى عن الحق ويدفع لمجانبته مهما كان.

 تجليات ومظاهر إبلاغ النبي لأمر الله
تناولنا فيما سبق طبيعة الخطاب الساخن والقوي من الله لرسوله صلوات الله عليه وآله، والذي بموجبه استجاب الرسول الأكرم لأمر الله، وهو المستجيب لربه في كل أمر، والمطيع له في كل شأن، وحاشاه أن يعتريه تخاذل عما يريد الله أو ينتابه تقصير في إنفاذ حكم الله، فتوقف في وادي «خم» في ساعة كانت الشمس في كبد السماء، والحر الشديد ظاهر ومحسوس من خلال أشعة الشمس المتسلطة على الرؤوس، وحرارة الأرض تكاد تلظي القاعدين عليها، فقال صلوات الله عليه وآله بعد خطبة مهد فيها للمراد طرحه كبلاغ عن الله وإنفاذ لأمره، وبيان لما حكم وقضى به وبعد رجوع من كان قد تقدم عن «خم» ووصول من تأخر: «إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم»، ثم يكررها عليهم لإقرار ذلك عليهم وتطويق أعناقهم في بيعة يبايعون فيها رسولهم على تنفيذ مراد ربهم، ويد الله فوق أيديهم، فكان يقول: «أليس الله مولاي؟!»، ويقولون: «اللهم بلى». ويقول: «أولست مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم؟!»، فيقولون كذلك: «اللهم بلى»، عندها بين النبي غاية ما قام بموجبه خطابه وهدف الجمع في غدير خم وما تطلبه وجود الكل ليسمعوا ويطيعوا ويستجيبوا، قال: «ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه»، والجميع ينظرون إلى رسول الله ومن ارتضاه الله ولياً لهم، فـ»علي» المعروف لديهم والواضح لعيونهم فوق أقتاب الإبل صار وليهم بأمر ربهم وبأمر رسوله الذي له حق الولاية التشريعية والحاكمية عليهم.
وكان رسول الله يعرف أن هناك من سيغلب نزعة النفس وسلطة الهوى على ما أراد الله ورسوله، لذلك ختم بيانه بالدعاء على من سيتنكب عن الطريق القويم ويحيد عن ولاية إمام المسلمين وسيد الوصيين وولي المؤمنين، فقال: «اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره».
بعدها أقبل الكل مبايعين، ولله مستجيبين، بينما كان بينهم ومِمن بايع علياً (عليه السلام) من يبيت النية لنكث بيعته وإن قال بلسانه تلك المقولة المشهورة عنه: «بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب»، الجملة التي تحركت بها لسانه وشفته فقط أما قلبه فظل ساكنا رافضاً لها ولما يعقب البيعة كلها.

بيان النبي في حديث الولاية متطابق مع ما قرره القرآن الكريم في ولاية علي
يقول الله تبارك وتعالى: «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون».
في هذه الآية الكريمة تتجلى المضامين المتطابقة لفظاً ومعنى في حديث الرسول صلى الله عليه وآله، وفي كتاب الله العزيز مما يوحي بأن الولاية أمر إلهي بلغه رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عن الله على المسلمين جميعاً لضمان استمرارية الرسالة بأصالتها وعمقها وقوتها سليمةً من التحريف وخاليةً من كل معالم الانحراف، باعتبار الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة، ولذلك أراد الله لها الخلود والامتداد بما يضمن الهداية لكل جيل من خلال الولاية لأعلام الهدى وأئمة الحق من العترة الطاهرة الذين يمثلون نَفَس النبي ويحملون روحيته ويجسدون أخلاقه بدءاً بالإمام علي (عليه السلام)، ومنه تستمر منارات الهداية للناس حتى قيام الساعة. لكن وعلى الرغم من تمام البيان ووضوح الحجة والبرهان إلا أن الضرب صفعاً عن الولاية الإلهية واستبدالها بولاية الطاغوت ظل الحاكم المستحكم على قلوب وعقول الكثيرين من المحسوبين على المسلمين. مع أن الأمر بيّن لا غموض ولا لبس فيه، فقد أجمع علماء الأمة ومحدثوها على أن هاتين الآيتين نزلتا في الإمام علي (عليه السلام)، وقد جاء من طرق أهل السنَّة 24 رواية تتفق ومضمون هذا الحديث، و19 رواية من طرق أهل الشيعة، كما جاء في كتاب «منهاج البراعة» نقلاً عن كتاب «غاية المرام»، وتجاوز عدد الكتب الّتي أوردت هذه الرِّوايات الثلاثين كتاباً كلها من تأليف علماء أهل السّنَّة، ورحم الله السيد «فضل الله» الذي قال في كتابه «من وحي القرآن»: «جاءت هاتان الآيتان لتحددا خط الولاية الَّذي يجب أن يلتزمه النَّاس بالنسبة لما يلتزمون به في العقيدة والشريعة والقيادة. فالله هو الولي الَّذي تتجه إليه قلوب العباد وأرواحهم بالطاعة والعبادة والإخلاص والنصرة والمحبّة، فبالإيمان به ينفتح درب الحياة، وبالالتزام بشريعته يستقيم خط العدل، وبالإنابة إليه يتصحح كل انحراف، وهو المرجع والملجأ في كل شيء، لأنَّه القادر على كل شيء، والمهيمن على كل وجود، والرسول هو الولي في الدعوة والرسالة والقيادة، فهو الَّذي يجب على النَّاس أن يستجيبوا له إذا دعاهم لما يحييهم من طاعة الله وعبادته، وهو الرسول الَّذي أراد الله للنَّاس أن يؤمنوا برسالته بما يوحيه الله إليه من وحيه، وبما ينزل عليه من قرآنه، وهو القائد الَّذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فيملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم، وله عليهم حقّ الطاعة في ذلك كله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، والَّذين آمنوا هم أولياء المؤمنين، لأنَّهم يُمثِّلون الإخلاص لله في ما تُمثِّله الصَّلاة الّتي يقيمونها من روح الإخلاص وشعاره، وفيما تُمثِّله الزكاة الّتي يؤتونها كتعبيرٍ عن روحيّة العطاء المنسابة من إنسانيّة الإيمان النابض في روح الإنسان المؤمن وقلبه، لاسيما وأنَّهم يؤدونها وهم راكعون لله، كأسلوب من أساليب المزج العملي بين عبادة العطاء وعبادة الخضوع، في ما يوحيه ذلك من معنى العبادة الَّذي لا يتمثَّل في حركة الشكل التقليدي للعمل العبادي، بل يمتد ليتحوّل إلى عنصرٍ من عناصر الخير الفاعل في حياة النَّاس الآخرين المحتاجين للعطاء».
وربما كان الاقتصار على هاتين الصفتين في شخصيّة الولاية في المؤمنين، للإيحاء بأنَّهما فيما يعبران عنه من معنى داخلي روحي وعملي، يمثِّلان الانطلاقة الحيّة في الصفات العامّة والخاصة التي ينبغي أن تتوافر في ولي المؤمنين، فيما يتحدّث به المتحدِّثون من شروط الولاية، لأنَّ الإنسان الَّذي يُقيم الصلاة لله بمعناها الحقيقي، لا بد من أن يعيش الإخلاص والأمانة على رسالة الله وحياة عباده، كما أنَّ الإنسان الَّذي يؤتي الزكاة من موقع الخضوع لله والركوع بين يديه، لا بُدَّ من أن يحمل مسؤولية النَّاس الذين يتولى أمورهم بكل أمانة وإخلاص، وبذلك تجتمع له الاستقامة في خط العقيدة، والاستقامة في خط المسؤوليّة العملية.
هذه -إذن- هي محددات وشروط من تجب لهم الولاية على هذه الأمة. ولا شك ولا ريب أنها متحققةٌ جميعها بسيد الوصيين الإمام علي عقيدة والتزاماً، نظريةً وتطبيقاً، وباعتراف كل فرق ومذاهب المسلمين. وحول ولاية الإمام عليّ (ع) من خلال الآية يقول السيد فضل الله (رحمه الله): «وقد جاء في أكثر من حديث أنَّ الآية الأولى قد نزلت في عليّ بن أبي طالب (ع) عندما تصدّق على الفقير الَّذي سأله الصدقة وهو في حالة الركوع، فأعطاه خاتمه. ولا بُد من أن تكون لهذه الحادثة الدلالة التعبيريّة الإيحائيّة بالمعنى الروحي الَّذي تُمثِّله هذه الصدقة، من حيث علاقة الصَّلاة بروح العطاء في نطاق الصدقة، مما لا يجعل من ممارستها في أثناء الصلاة عملاً مختلفاً عن الصَّلاة، بل يعتبر منسجماً معها تمام الانسجام، لأنَّ كلاً منهما يُمثِّل رضا الله فيما يأمر به من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ التركيز على الَّذين آمنوا الَّذين يمارسون هذا العمل، يوحي بأنَّ المسألة ليست منطلقةً من خلال هذا العمل كحالة طارئة من حالات التصدُّق، بل هي منطلقةًّ من حيث كونها مدلولاً إيمانياً عملياً، يتحرك في كيان الشخص، ليتحول إلى صفةٍ لازمةٍ لا تنفك عنه، ما يجعله من ملامح الشخصيّة الأصيلة. وقد نستوحي من نزولها في نطاق هذه الحادثة، في ممارسة علي (ع)، أنَّ الآية تريد أن تشير إلى النموذج الأمثل ليجد النَّاس فيه الفكرة بعمق، مما يراد لهم من خلاله أن يتطلعوا إلى النموذج الأمثل ليجدوا فيه عمق الدلالة على المعنى من حيث ملامحه الحقيقية، ولا يتوقفوا عند المدلول الساذج للصفة والحادثة».
وأضاف أيضاً: «وجاءت الآية الثانية لتؤكد على جانب الممارسة، بعد أن أكدت الآية الأولى على جانب الخط، ..وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ.. ويتحرك في خط الولاية الصحيح فيلتزم به ويترك الخط المزيف، فسيجد كل الخير والهدى والعدل والصلاح والقوّة والغلبة، في هذا الجانب الَّذي يُمثِّل حزب الله في كل ما يحمل من شعارات ويتجه إليه من أهداف، وإذا سار النَّاس في هذا الطريق، وعاشوا الانتماء إلى حزب الله، فسيكون لهم النصر والغلبة على الآخرين، .. فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.. بفكرهم، وإخلاصهم، وثباتهم، وصمودهم، أمام التحديات الصعبة في الساحة».
والسؤال الذي يجب على كل فرد منا أن يكرره في أعماقه هو: هل بقي عذر لمن فارق الحق وعاداه والتزم الباطل ونادى به وتحرك تحت رايته، وما أكثرهم اليوم؟!

أترك تعليقاً

التعليقات