إلـى «الإعلام» بلا تحية
 

سرور عبدالله

إلـى «الإعلام» بلا تحية
ضجيج الأثير الإذاعي والبث التلفزي ينذر بكوارث في بنية الفكر وبيئة المجتمع

سرور عـبدالله / لا ميديا -
إن عيناً استقرت في الواحات الخصبة، وجالت بعدستها في تموجات صور النماء لتستوطنها دهشة المشهد الباعث على التأمل، المولد لإشراقة فكر، وصحوة ضمير، المُحيي للكثير من المشاعر، والمرسخ لعقيدة ثابتة تحقق في تجليها اندفاعة فاعلة، وترصع الفكر بجواهر العطاء المحتوي بين جنباته أكثر من 50 جبهة قتالية، والطاوي بجناحيه زمن الاستلاب والعدمية، والرافع لمداميك إرادة حرية وسيادة واستقلال لا سقف لها إلا عنان السماء.
نعم هي ذاتها العين الموجدة من مسارات تنقلاتها عوامل تعزيز لاستقامة السالكين. ولعل أهم ما يجب الالتفات إليه التفاتة جادة هي "الكلمة" بشتى قوالبها ومختلف طرق تأديتها، الكلمة النابعة من صلب الوعي الشعبي، والناشئة من تصاعد حراك ثوري يعطي أولوية مطلقة لضرورة إبلاغ الرسالة التي تبنتها ثورته وانبنت بموجب أحقيتها أهدافه وغاياته.
ماذا عن هذه الكلمة من حيث مضامينها ومحتوياتها في ظل تكاثر كمي وتدفق مخيف لمؤسسات تعنى بها، وتتخذ منها وجهتها في ميدان العمل؟ وإلى أي حد أسهم هذا التوالد الأشبه بتوالد النمل كماً وكيفاً في إشباع حاجة المواطن الصامد وتحصين وعيه؟ ثم إلى أي مستوى تمكنت خلايا النمل الإعلامية من تلبية متطلبات المرحلة؟
إن التلوث البيئي الناتج عن تصاعد أدخنة المصانع وغيرها في الدول المتقدمة، والذي قيل بأنه قد أحدث ثقباً في طبقة الأوزون، وبالتالي أصبح مثيراً لحدوث كوارث طبيعية تُنذر بالدمار، هو ذاته اليوم المجتر بكل مآسيه على شعبنا، ولكن ليس من خلال تصاعد أدخنة المصانع، بل من خلال تصاعد الضجيج لموجات الأثير الإذاعي ومحطات البث التلفزي المنذرة بحدوث ثقب في طبلة سمع الشعب اليمني أو بصره، والباعثة على إنتاج كوارث في بنية الفكر وبيئة المجتمع.
وإذا ما تغلغلنا في واقع إعلامنا هذا اليوم سنجد أن هناك من القنوات والمحطات الإذاعية التي تم إحداثها لتصل بالكلمة إلى كل بيت يمني وكذلك إلى كل متراس جهادي، وتقوم بوظائف جهادية فكرية توعوية تثقيفية تتوازى وما نعيشه من غزو منذ اندلاع الحقد الضلالي العدواني، ومنذ ما قبله بسنوات طوال، والمؤلم أن الكثير من منصات الكلمة المسموعة والمرئية تسير في الوجهة التي لا تنطبق وخارطتها التوعوية، فتلاحظ أن هناك الكثير من البرامج التي تشغل حيزاً كبيراً من الوقت وتغطي مساحة شاسعة من الإعلام لا تستند على الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة القرآنية ولا تعمل على ترسيخ سلوكياتها ومبادئها ولا تحاول أن ترتقي بوعي الجمهور إلى فراديس الجهاد ونقل الصورة البطولية الحقيقية التي يؤديها الصناديد في الجبهات ولا توثق تلك الانتصارات العظيمة، بل إن بعض البرامج صارت منابر لمجرد الثرثرة وطرح مواضيع نقاشية ومشاكل ومهاترات اجتماعية صغيرة لا تتناسب مع المرحلة الراهنة، حتى إننا وللأسف بتنا نرى ونسمع ما يتشابه ومقايل القات. برامج كثيرة اختفت عنها الكلمة الإعلامية السوية وفائدتها، بل إننا بتنا نبحث بالمجهر عن معلومات جديدة أو قديمة ولو كانت صغيرة تنمي معرفة السامع والمشاهد في كومة الثرثرات، وكأننا نفتش عن الإبرة في القش.
لم لا تكون هناك رؤية إعلامية موحدة يسير عليها الجميع في المتاريس الأثيرية والتلفزيونية، رؤية حازمة لازمة تمنع أن تسير كل ذبذبة على هوى أفرادها؟ ثم دعوني كمشاهدة ومستمعة متلقية أسأل: هل المتصدرون لمراكز الإعلام يحظون بقدر كاف من الوعي القرآني؟ وهل يدركون حجم المسؤولية الموكلة إليهم والملقاة على عاتقهم؟ لماذا يتم الاستخفاف بوعي وعقلية الجمهور المتلقي، والنزول بمستوى اللغة الإعلامية إلى ما هو أقرب من اللغة السوقية أو إلى العامية التي قد لا تفهم بعض لهجات مناطقها للبعض الآخر، وتحييد اللغة العربية، بل مهاجمة روادها من قبل بعض المتصدرين بحجة أن المتلقي لن يفهمها، وأنها لا تجوز ولا تتناسق إلا مع خطباء الجوامع؟ أين لغة الإعلام الحصيفة والرزينة التي تعيدنا إلى كتاب الله وتحملنا على بواخر البلاغة؟ هل فقد الإعلام تلك البرامج الجودة التي كان يمتلكها حين كنا أطفالاً نتجاذب نحوها رغم صغر سننا، خصوصا تلك الإذاعية التي لاتزال عالقة في أذهاننا؟ لماذا تم قبول كل من ليس له علاقة بالإعلام والثقافة واللغة في مختلف المحطات والإذاعات؟!
ونجد من ناحية أخرى ما هو أغرب من الغرابة أن نكون نحن جيل الثورة، وأصوات الصرخة التي غيرت وبدلت وهدمت بمعاول الحق والثبات أعتى حصون العتاولة والطغاة، وداست على رؤوس الأفاعي الخطيرة، نحن الذين ننبض بقلب اليمن الصامد المدافع عن قضيته وكرامته وهويته الإيمانية، والمتمسك بأصالته وموروثاته وحضارته، نحن في هذا الوطن نسمع نوعاً آخر من الإذاعات الإعلامية التي باعت كلمتها وتنصلت من مسؤوليتها، وبثت علينا سمومها، إذاعات لا تمت لديننا بأية صلة، بل إنها كمراقص الخليج لا تختلف عنها في شيء.
كثير من الواعين يتعجبون من عدم توجيهها أو التخفيف من إنتاج سمومها علينا على الأقل، أم أن المسؤولين عن الإعلام يتغاضون عنها لمصالح ما تقوم على حساب شباب هذا الوطن المستهدف عبرها بشراسة، بما فيها من برامج تبث بثقافات وسلوكيات أخلاقية ليست من سلوكياتنا ولا صلة لها بنا، تحاول أن تلقي بيمننا إلى منزلقات الهاوية.
أعي أن الكثير سيقول إنها حرية الرأي والرأي الآخر، وأنا مع هذا، ولكن تعدد الرأي ضمن الالتزام بالثوابت، والارتباط بالقيم، والبقاء في حدود الأدب، والحفاظ على الهوية. أما إن كان الرأي الآخر مخالفاً لهذا وخارجاً عن الثوابت ويهدد مجتمعنا المؤمن ودينه، وما دامت كذلك فلا كفارة لها حتى وإن توحدت مع الإذاعات الوطنية في برنامج واحد لتُكفر به عن خطاياها ومراوغاتها، إن كانت هذه الإذاعات تواكب التحضر ومشدوهة بغيرها فأي جيل سينشأ بوجودها؟!
يجب أن يقدم لنا الإعلام المحلي ما نستحقه. ويجب أن تكون الكلمة منبر وعي وتأدب، ومتراس نضال، وصوت بصيرة، وسبيل حكمة، ويجب أن يعمل أصحابها على تقديم كل ما هو ثري بالمعرفة وتقديم المواد المنهجية الصحيحة، وأن يجتهدوا في العمل على ذواتهم، لا أن يقدموا لنا ما هو منسوخ منقول من كتب ومراجع لا يعونها حتى هم، ويجب أن يدرك كل مسؤول واجباته الحقيقية، أما نحن فنرفض أن يكون وقتنا هدراً، وعقولنا ضحية لما لا يشبع وعيها، ولا يلبي تطلعاتها.

أترك تعليقاً

التعليقات