موفق محادين

د. موفق محادين / لا ميديا -
يحاول «حلف واشنطن -تل أبيب»، من عرب الإقليم، المضي أكثر في الاستثمار في الدماء والدمار والأيتام والبيوت والمستشفيات المهدَّمة، وتحويل القذائف الصهيونية إلى فواتير في كل الصناديق.
ابتداءً، يُظهر تقرير أمريكي صادر عام 2000 أن كل ما تشهده المنطقة من اعتداءات صهيونية على غزة ولبنان وما شهدته سوريا وقبلها العراق، وما يتعلق بالتهديدات الأمريكية والصهيونية لإيران، لم يكن وليد لحظته وليس قرارا «إسرائيليا» منفردا بدعم أمريكي في أعقاب «طوفان الأقصى» أو لأي سبب آخر، بل وليد تحليلات وقراءات أمريكية قبل ربع قرن على الأقل، كما جاء في كتاب محمود حيدر «الدولة المستباحة»، الصادر عن دار رياض الريس 2004.
فتحت عنوان «استراتيجية جديدة لإسرائيل عام 2000»، أعد فريق أمريكي تابع للبنتاغون برئاسة الأمريكي المتصهين، ريتشارد بيرل، تقريرا حول الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية المقبلة، وأرسل التقرير إلى نتنياهو، ومما جاء فيه:
- تشكيل تحالف في «الشرق الأوسط» يضم «إسرائيل» وتركيا ودولة عربية.
- تحت عنوان فرعي: طريق دمشق يمر عبر بغداد، دعا التقرير إلى استراتيجية عمل تستولي على العراق في طريقها إلى تحطيم سوريا.
- دفن «اتفاق أوسلو» نهائيا والسيطرة «الإسرائيلية» على كامل الأراضي الفلسطينية بأي ثمن.
- ضرب المراكز (الأصولية) التابعة لإيران في العراق وسوريا ولبنان وغزة، ونزع سلاحها والقضاء عليها تماما، انتهاء بضرب إيران نفسها (محمود حيدر، الكتاب المشار له، ص275-276).
في ضوء ما سبق، ليس بوسع أحد إنكار أن كل ما شهدته بلدان الإقليم وخاصة لبنان وسوريا وفلسطين من أحداث سياسية: استهداف المقاومة والترتيبات الأخيرة في لبنان، إسقاط الدولة السورية، حصار الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وهذه الدرجة من الوقاحة السياسية والإعلامية في مواقع عديدة، نفطية وغير نفطية، هو مجرد صدى للاعتداءات الوحشية للعدو الصهيوني في سياق القراءات الأمريكية سابقة الذكر.
فبعد استعصاء معروف للمشهد الحكومي والرئاسي في لبنان، وللمشهد السوري وقلق وذعر في الأوساط الإمبريالية ومحميات النفط والغاز المسال، تحول هذا الاستعصاء إلى سيولة سياسية غير متوقعة ما إن تمكن العدو الصهيوني من الجو حيث فشل في البر أمام المقاتلين، من  إنهاك واستنزاف المقاومة.
ويعرف المتبجحون الموتورون من السياسيين والإعلاميين أن الوقاحة على الشاشات وخلف الكواليس ناجمة عن العدوان الوحشي الصهيوني -الأمريكي وليس بسبب وزنهم وحجمهم السياسي والإعلامي والاجتماعي، فالذين جربوا حظهم قبل هذا العدوان، كانت الخيبة والفشل الذريع من نصيبهم.
ويحاول «حلف واشنطن -تل أبيب» من عرب الإقليم في كل البلدان والساحات المضي أكثر في الاستثمار بالدماء والدمار والأيتام والأرامل والبيوت والمدارس والمستشفيات المهدمة، وتحويل القذائف الصهيونية إلى فواتير في كل الصناديق، من الانتخابات البلدية والبرلمانية إلى صندوق النقد الدولي معها، إلى الفاجعة السورية.
والأخطر من كل ذلك، أشكال من التطبيع والصهينة، فالعدو الصهيوني الذي خسر الكثير من قواته وسمعته لم يفعل كل ما فعل بدون هذه الفواتير التي ظهرت سريعا بدعوة رموز معروفة في أكثر من بلد إلى نزع سلاح حزب الله والمقاومة الفلسطينية وإنعاش مناخات تقود إلى اتفاق 17 أيار جديد.
وهو ما تكرر في سوريا أيضا بعد سقوطها من خلال موجات التدمير الصهيونية العاتية لتحطيم الجيش السوري (نزع سلاحه) والتنصل من المشاغبة السابقة ضد العدو الصهيوني وتحميلها إلى «المليشيات الإيرانية»، على حد تعبير أكثر من شخص من المجاميع التي تم تسليمها سوريا في رحلة الدراجات النارية السياحية من إدلب إلى دمشق.
هكذا، في الإطار العام للتداعيات المذكورة وفي سياق استعادة نظامي الوصاية الإمبريالية والملة العثمانية، يمكن تخليص الاستهدافات العامة لها بالنقاط التالية:
1. إنهاء فكرة المحور وطي ملف المقاومة ونزع سلاحها وتفكيك الجيوش المحيطة بفلسطين وخاصة الجيش السوري.
2. تصفية قضية فلسطين وتفريغها من أي بعد سياسي وتحويلها إلى شظايا اجتماعية باسم الترانسفير خارج فلسطين.
3. الحط من القيم الوطنية والإنسانية التي تتعلق بالكرامة والبطولة والهوية والسيادة.
4. ضرب فكرة الأمة وتمزيقها إلى هويات طائفية وجهوية متناحرة.
5. اللعب على الجغرافيا السياسية من خلال شرق أوسط من الكنتونات الضعيفة، وتمزيق المنطقة بين شرق أوسط إبراهيمي وهلال (سني).
6. ضرب فكرة الدولة وتمزيقها بين أشكال من (الدولة الضعيفة والنظام القوي) وبين البلديات الكبرى.
7. الاتكاء على الإعلام والثقافة الانتهازية، لإشاعة ثقافة الهزيمة واليأس والخوف والعبث والعدمية والكراهية الطائفية.
وفي التفاصيل: في لبنان تجري ترجمة نتائج العدوان الصهيوني بفرض الوصاية الأمريكية وجوائز ترضية هنا وهناك وبمحاولة إعادة لبنان إلى ما بعد عدوان حزيران 1982 ومناخات 17 أيار، ومحاولة نزع سلاح حزب الله وإسقاط المقاومة من مثلث الجيش والشعب والمقاومة، وحظر أي نقد للعروبة النفطية، وربما سيطال الأمر أي نقد للخصخصة والبنك الدولي باعتبار ذلك شمولية بائدة، ومن المؤكد أن مشروعا جديدا لقانون للانتخابات البرلمانية سيطرح لتقليم دور الحزب، وسيكون ذلك بلا جدوى أمام عودة موضوعية في هذه النقطة بالذات لتحالف التيار والثنائي الوطني (الشيعي).
في سوريا، فإن الاستهدافات السياسية للعدوان الصهيوني ستأخذ أبعادا أخطر بكثير، من الوصاية الثلاثية، التركية - الصهيونية -الأطلسية، وتكريس جعجع (سني) بهدف التحرّش بالحدود مع لبنان وافتعال معارك مع الشيعة في القرى الحدودية ومحاولة جر حزب الله إليها، واللعب على الإزاحات المجربة عن التناقض التناحري مع العدو الصهيوني إلى اختلاق عدو مذهبي بديل (الرافضة) كما أنتجت ذلك كواليس  وجواسيس الجامعة الإسلامية في «تل أبيب»، بدءا من الجبهة الشرقية والحرب العراقية -الإيرانية إلى ما شهدته العراق وسوريا على يد العصابات التكفيرية باسم العدو القريب.
بالإضافة إلى هذا الدور لجماعات الدراجات النارية، التي انتقلت من إدلب إلى القصر الجمهوري في دمشق، ثمة ملاحظة تتعلق باستراتيجية الخرافة التي راحت تتمدد من إعلان دولة اليهود على الأرض الموعودة المزعومة، إلى تسويق الجولاني كسفياني منتظر يعيد المجد لبني أمية بعد سحقهم من قبل العباسيين، ويصرف النظر عن الصراع العربي -الصهيوني في الإزاحات سابقة الذكر.
يشار هنا إلى المحاولة التي لم تعمر طويلا عندما جربت أوساط في طهران ودمشق اختراق الجماعات التكفيرية أيديولوجيا بالتركيز على العدو البعيد (الإمبرياليون وعلى رأسهم واشنطن وأداتها تل أبيب) بدل العدو القريب كما اخترعته ولفقته أقلام الاستخبارات الأطلسية -الصهيونية ومعهد الأبحاث التابع لها في الجامعة الإسلامية في «تل أبيب» واخترعت له «داعش» و»جبهة النصرة» وأمثالهما.
على الصعيد الإقليمي، ومقابل محاولات إضعاف إيران وحصارها وتحويل التباينات الموضوعية فيها، بين تيار الحرس الثوري والتيار الليبرالي إلى مادة للاستثمار والتفجير الداخلي، إعادة اللعب على الانبعاث العثماني من زاوية طورانية توسعية تمتد باسم الوصاية المذهبية على مناطق واسعة من سوريا والمنطقة عموما، والسيطرة على مجرى النهرين في إطار تقاسم وظيفي صهيوني -عثماني، بل وتصويره كتنافس أو صراع ثنائي لدفع العرب نحو الحضن التركي.
فلسطينيا، بالإضافة للهدف الاستراتيجي الصهيوني المتمثل بتصفية القضية الفلسطينية وقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتشتيت البقية، يهدف العدو إلى:
- تفريغ غزة ما أمكن وتحويلها إلى مجمع بتروكيماوي وإدارة لثالث أو رابع احتياط للغاز في العالم، ومن المؤكد أن واشنطن ستكون شريكا أساسيا لـ»تل أبيب» في ذلك، وقد لا تمانع في حصص ضئيلة لبعض الأطراف العربية أو التركية.
- تفريغ الضفة الغربية ما أمكن أيضا، بالتهجير القسري أو بخلق منطقة استثمارات في الأردن بدعم من محميات النفط والغاز المسال، فالمنطقة الشرقية والوسطى من فلسطين (الضفة الغربية) تحتل أهمية معروفة في العقل التوراتي وأمراضه الطائفية.
وبخصوص الأردن الذي يستطيع التحسب الميداني إذا ما تصاعدت المخاطر الصهيونية عليه، ولكنه قد ينزلق إلى البيئة الخليجية الاستثمارية للتهجير وفق السيناريو المذكور، وذلك بسبب الطبيعة الاجتماعية للسلطة والبرجوازية النافذة مقابل حركة وطنية ضعيفة ومتشظية.
إلى ذلك، وعلى المستوى العام للإقليم، فما جرى ويجري يندرج في إطار الحرب حول «الهارت لاند» أو قلب العالم الثاني، من الصراع حول أوراسيا، ولا سيما بعد أن تمكنت عواصم وقوى في المنطقة من تشكيل محور مناهض حول «الهارت لاند» المقصود، امتد إلى ما يعتبر في العقل الإمبريالي الصهيوني وعرب النفط والغاز المسال، خواصر من طراز أمني استراتيجي خطير، من جنوب لبنان إلى غزة إلى باب المندب.
فالمحور المذكور قبل استهدافه وإضعافه شكل تحديا استراتيجيا لمجمل مصالح الغرب الأمريكي -الأوروبي، ومعه الكيان الصهيوني، والمحميات النفطية، وقطع عليهم محاولاتهم لبناء شرق أوسط إبراهيمي متصهين.
يمر هذا الليل: في ضوء ما سبق، ثمة ملاحظتان، تتعلق الأولى بالعدو الصهيوني والحرب التي عوض فيها خساراته البرية بالسيطرة على الجو وآفاق ترجمة هذه السيطرة، وتتعلق الملاحظة الثانية بقوى المقاومة واحتياطاتها الشعبية وكيفية توظيفها في هذه الحرب الحاسمة:
- فيما يتعلق بالعدو فإن السؤال المطروح هو، هل استعاد وظيفته الدركية الإقليمية من خلال جرائمه الوحشية والتحولات التي شهدتها سوريا.
نعرف أن الوظيفة الإقليمية لأي كيان أو جهة ترتبط بمجموعة مؤشرات ومعطيات تحتاج إلى قوة نيران كثيفة، لكن هذه القوة بحد ذاتها لا تكفي، خاصة إذا كانت الرافعة الاجتماعية لها من نمط الحالة «الطالبانية -الداعشية -اليهودية» التي تزيح الاشكناز من طريقها يوما بعد يوم، وليس الإشكناز مجرد تشكيلات طبقية حملت المشروع الصهيوني منذ تأسيسه وتشكلت على غرار التشكيلات الرأسمالية الاستعمارية، بل هم محور السردية الصهيونية المزعومة بالمقاييس الكولونيالية الغربية وخطابها الاستشراقي العنصري.
فإذا أضفنا إلى ذلك مخازن السلاح الأمريكية المتطورة المفتوحة للعدو منذ حرب تشرين 1973 وحتى جرائمه ضد غزة ولبنان واليمن، فإن هذا الكيان أعجز من أن يعيد إنتاج وظيفته السابقة، وهو فعلا برغم كل تداعيات جرائمه، كيان على طريق الزوال.
- أما بالنسبة للمقاومة الوطنية في كل أنحاء الإقليم وعلى أهمية تكوينها الميداني والعسكري، فقوتها لا تقتصر على الاشتباك بالنار فقط، ونعرف من دروس المقاومة في إيرلندا الجنوبية، كيف أدارت حرب التحرير والاستقلال مع الاستعمار البريطاني بالتناوب بين سلاح القتال وسلاح المظاهرات المليونية والعصيان المدني أيضا.
فإذا ما استشرى الخطاب المضاد ضد البيئة الوطنية للمقاومة في لبنان وضد الشعب السوري وخاصة في الساحل وأريافه، وفي بلدان أخرى من العراق إلى اليمن الذي يظهر صلابة وإرادة واستعدادات عالية، ما الذي تستطيع كل قوى الكون وأسلحته وحصاراته أن تفعله مع شعب قرر أن يغلق الشوارع في مظاهرات حاشدة مفتوحة أو عبر إعلان عصيان مدني لمدة أسبوع واحد.

أترك تعليقاً

التعليقات