موفق محادين

د. موفق محادين / لا ميديا -
في كتابه «أمريكا بين عصرين»، الصادر عام 1970، تنبأ أخطر وأهم فيلسوف للسياسة الأمريكية، بريجنسكي، بأفول أمريكا كدولة عظمى، والبقاء ضمن الدول الكبرى، مع انتهاء العقد الثاني أو الثالث من القرن الحادي والعشرين.
فما هي المعايير التي حددت وتحدد نشوء وأفول الإمبراطوريات والقوى الكبرى؟
بالإضافة لكتابات بريجنسكي، ونظريات الجيوبوليتيك حول الإمبراطوريات البرية والبحرية (راتزل، ماكندر، سبيكمان) هناك العمل الهام حول نشوء وسقوط الإمبراطورية الرومانية للانجليزي جيبون، وكذلك كتاب بول كينيدي «نشوء وسقوط القوى الكبرى».
وتتفق الكتب المذكورة على تطور وتباين هذه المعايير من حقبة إلى أخرى كما في قلب الحقبة نفسها.
فالطاعون، الذي يذكرنا بكورونا، كان السبب الحاسم في أفول الإمبراطورية الرومانية، المنهكة أصلا في حروبها مع بلاد فارس، وذلك قبل الموجة الإسلامية التي وجدت نفسها أمام إمبراطورية متآكلة ومفككة بفعل الطاعون.
وبالمثل، دور البارود، الذي استخدمه العثمانيون ضد الفرسان المماليك 1516، كما استخدم ضد الإمبراطورية الهندية من قبل المغول 1526. وكذلك دور الثلج الروسي، الجنرال الأبيض، في هزيمة جيوش نابليون وهتلر.
ومن العوامل التاريخية الأخرى الحاسمة في تقرير مصير القوى الإمبراطورية القديمة، التحولات في طرق التجارة الطويلة، فما كان لمكة أن تصعد كمركز تجاري ثم ديني، لولا هذه التحولات التي أضرت بحضارات مثل اليمن والرها وتدمر والأنباط.
ونعرف أيضا أن ظهور القبائل التركية، المبكرة عبر إمبراطورية الخزر المتهودة، أو المتأخرة المتأسلمة، كان بسبب تحول طرق التجارة وطريق الحرير شمالا، فما إن ظهرت قناة السويس حتى دخلت تركيا عصر الرجل المريض، وكان الفرنسيون الذين شقوا القناة، قد فعلوا ذلك لضرب شركة الهند الشرقية البريطانية وطرقها.
وبالمثل في مناطق عديدة، ارتبطت بطرق أخرى، مثل طريق الذهب في الصحراء الكبرى، وطريق الملح الشمالي في أوروبا، وهكذا.
وقد جاءت الاكتشافات الجغرافية والاختراعات العلمية لتعزز ذلك وتراكم الذهب بيد الإمبراطوريات الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) قبل أن تظهر بريطانيا مستفيدة من الثورة الصناعية التي أطاحت بالإقطاع وعائلاته الكبرى، غربا وشرقا: آل هابسبورغ الكاثوليك (تحالف النمسا – إسبانيا) وآل عثمان.
ولا ننسى قراءة ماركس والمادية التاريخية للصراع الطبقي في إطار تحول علاقات الإنتاج وانعكاسها في كل مرة في أنماط اقتصادية – اجتماعية وسياسية وأيديولوجية.
اليوم، عصرنا الراهن، فان ما بعد الثورة الصناعية واقتصادات المعرفة، والثورة المعلوماتية الرابعة بل والخامسة، هي العامل الحاسم في تسريع الوتائر الأخرى لنشوء الإمبراطوريات وانهيارها، وبالأخص المتروبولات والإمبرياليات الكبرى مثل الولايات المتحدة، مضافا إلى ذلك في الحال الأمريكي، دور الدولار والدولرة في النظام النقدي العالمي.
في كتابه «رأس المال»، وتحديدا فيما يخص التركيب العضوي لرأس المال، لاحظ ماركس أن من سمات الرأسمالية: الثورة التقنية المتواصلة، والتي تعمق التناقضات الرأسمالية في الوقت نفسه.
فمع كل تقدم تكنولوجي وصولا إلى الاقتصاد المعرفي والرقمي تقذف لرأسمالية بالملايين خارج سوق العمل، سواء الياقات الزرقاء أو البيضاء أو أصحاب المهن، إضافة إلى أن المتروبولات تفضل العمالة الرخيصة المهاجرة على العمالة البيضاء.
وهنا، بدلا من أن تعترف الرأسمالية بأزمتها المستعصية، غالبا ما تواصل الإنكار وتزعم أن الرأسمالية قادرة على تصحيح نفسها (كتابات هايك وميلتون)، كما تلجأ إلى تحميل العمالة المهاجرة مسؤولية ذلك، عبر إنتاج وتأجيج خطاب نازي بين الحين والحين، من هتلر الألماني إلى ترامب الأمريكي.
هكذا، تتسع العنصرية والمالثوسية والداروينية الاجتماعية جنبا إلى جنب مع الأزمة الدورية المتفاقمة للرأسمالية، وتؤسس بالتدريج لحفر قبرها التاريخي، بحسب ماركس، وللعد العكسي لأفولها التاريخي على عتبة فوضى كونية حذرت منها روزا لوكسمبورغ.
وفي الحالة الأمريكية، فإن العامل الإضافي: دولرة النظام النقدي العالمي، تدفعها باطراد إلى اختلاق حروب عدوانية عسكرية، للحفاظ على هذه المواقع، مما يجعل النازية الجديدة ظاهرة معولمة في الشمال الرأسمالي العالمي «همجيات عليا» بحسب تعبير الفيلسوف الألماني شبنغلر، تجد صداها في همجيات دنيا تكفيرية جنوب العالم.
وبحسب بول كينيدي، فإن الإفراط في التمدد العسكري الخارجي لم يخدم أبدا الأمن الاستراتيجي للمتروبولات وخاصة الأمريكية. وكان من الصعب دوما العودة إلى الوراء أو الاسترشاد بنظرية الوسط الذهبي عند أرسطو.
وبالمثل فقد لاحظت دراسات أخرى أن هرب الرساميل إلى الاستثمار في الفضاء والعلوم وأعماق المحيطات، بلا معنى مع فقدان المراكز الإمبريالية لميكانيزمات السيطرة الأساسية وبناء توازن مستحيل بين الثورة التقنية وسوق العمل.
فالأمر المؤكد، حتى الآن، هو أجراس الأفول ومغادرة المقعد الذهبي، الدولة العظمى، إلى صفوف الدول الكبرى في أحسن الأحوال.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالشيخوخة الإمبريالية بحسب نظرية المركز والمحيط وتبادل الأماكن بينهما، بحسب قراءة مدرسة فك التبعية (والرشتاين وسمير أمين)، يقابلها صعود تدريجي لقوى جديدة تولد من قلب هذه التداعيات.
وإذا كان عصر ماركس هو عصر الرأسمالية الصناعية ووحدة المتروبولات، فإن العصر التالي، عصر الإمبرياليات الكبرى، شديد الصلة بصفة جديدة، هي التقسيم الاجتماعي للعمل الدولي وتصدير الرساميل وخطوط الإنتاج، والذي يعني انتقال خطوط إنتاج صناعية بالكامل من المراكز إلى المحيط، وخاصة البلدان الكبرى المؤهلة لاستقبال ذلك، من حيث البنى التحتية للطاقة والصناعة والنقل، والأسواق الواسعة والعمالة الرخيصة والمؤهلة في الوقت نفسه، وتسهيلات التدفقات المالية.
ويشار كذلك إلى أن هذه الانتقالات من المركز إلى المحيط غالبا ما ترتبط بترتيبات مع البنك وصندوق النقد الدوليين ونادي روما وغيره.
إن الإمبرياليات الكبرى، مثل أمريكا وهي تذهب نحو مزيد من اقتصاد المعرفة والثورة المعلوماتية وتتخلص تباعا من عشرات الصناعات، تفقد مع الزمن التوازن بين الرأس والتكنولوجيا والدولرة التي تحتاج باستمرار إلى مغامرات عسكرية خارجية لحمايتها، وهي المغامرات التي باتت باهظة التكاليف.
ويتحول المحيط، بحسب سمير أمين، إلى مراكز بديلة، ولاسيما في حالة الصين، التي راحت تكرس ذلك بتطوير قدرات عسكرية جبارة وبإعادة إنتاج لشبكة واسعة من النقل والموانئ لطريق الحرير، حولتها بالتدريج من إمبراطورية اقتصادية برية إلى إمبراطورية برية – بحرية تتعدى بحر الصين الجنوبي ومجالها الآسيوي إلى ما هو أبعد من ذلك.

أترك تعليقاً

التعليقات