موفق محادين

د. موفق محادين / لا ميديا -
من الطبيعي أن تؤول الدساتير الطائفية في لبنان والعراق إلى نتائج مشتركة على أكثر من صعيد، ولو نجحت الرجعية الطائفية في سوريا لكانت دمشق ثالثتهما.
وإذا كان لبنان أشبه بكرة ثلج سحبت معها العراق في ما يخص “تطييف” الدستور، الأول على يد الاستعمار الفرنسي (مؤسس العلمانية)، والثاني على يد الغزو الأمريكي ودستور بريمر، وبالأحرى مستشاره اليهودي، نوح فيلدمان، فها هو العراق يدفع ثمن هذا الاستجرار ويلتحق بالخطاب السياسي للمظاهرات الملونة في لبنان والتي سبق أن تزامنت معها مظاهرات عراقية شبيهة.
والمفضوح أن يعلن قادة وأدوات هذه المظاهرات في الحالتين، اللبنانية والعراقية، أنهم مستقلون وسياديون وأن يتداولوا المفردات وأن يستخدموا التكتيكات نفسها:
1. السيادية، وهي هنا إزاء طرف إقليمي واحد، مقابل علاقات خارجية واسعة معروفة تفضحها كل يوم بل كل ساعة، المنابر والفضائيات المعروفة لمحميات النفط والغاز المسال، ناهيك بالعلاقات التاريخية الراسخة التي تربط تيارات نافذة في العراق ولبنان مع الدوائر الأمريكية والصهيونية، ولا أظن أن جماعة البارزاني في العراق والقوات اللبنانية وحزب الكتائب اللبناني تنكر هذه العلاقات، ومثلها الجماعات الملونة ومفاتيحها في مراكز التمويل الأمريكية وغيرها مثل: فورد فاونديشين، نيد، راند، المجتمع المفتوح، كارينجي، وغيرها.
والحق في ما يخص التيار الصدري الذي اكتشف عروبته مع هذه المحميات، أنه لم يُظهر حتى الآن علاقات خاصة جدا مع الأمريكان، تاركا ذلك لحليفه الموضوعي من جماعة الثورة الملونة العراقية.
2. العروبة المفاجئة، بالإحالة على العروبة النفطية التي ظهرت في مواجهة إيران وحزب الله، بعد أن كانت الرجعية النفطية أخطر أدوات الإمبريالية ضد العروبة بزعامة جمال عبدالناصر.
ومن الواضح أن العروبة النفطية، راحت تنعكس على جماعاتها في لبنان والعراق، فلا أحد يتحدث عن العروبة في لبنان أكثر من جعجع، وبالمثل راح الصدريون في العراق ينفخون في بوق “العروبة النجفية” ضد “قم الإيرانية”، علماً أن انقسام المرجعية بين “النجف” و”قم” لم يأخذ في الغالب الأعم صفة قومية، بل إن غالبية المرجعيات النجفية من أصول غير عربية، وكان الدكتور علي شريعتي أحد أهم المرجعيات التي مهدت للثورة الإيرانية، قد ميز بين المرجعيات وفق مقياس آخر، هو التمييز بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وليس التشيع العربي والتشيع الإيراني، علما أن الصفويين يعودون إلى أصول أذرية تركية لا فارسية.
3. بكائيات الفساد، التي يتساوى فيها صدريو العراق مع لبنانيي السفارات الأطلسية ومحميات النفط والغاز المسال، فالتيار الصدري الذي يرفع الصوت عاليا ضد الفساد في بغداد، لا يمانع في التحالف مع قوى الفساد في أربيل التي تقيم أيضا علاقات في العلن والسر مع “تل أبيب”.
وكما كانت قوى مثل الحزب التقدمي الاشتراكي والكتائب والقوات اللبنانية جزءا من حكومات لبنانية متعاقبة قبل أن تتنصل من هذه المشاركة، فإن التيار الصدري شارك في الحكومات العراقية التي بات يتهمها بالفساد.
4. السلاح المتفلت، وهي مفردة يتطابق فيها التيار الصدري في العراق ونسخته من كل الطوائف في لبنان، سواء من حيث استهدافاتها أو من حيث تناقضاتها.
فالسلاح المتفلت المقصود في العراق هو السلاح الذي تصدى للأصوليات التكفيرية واشتبك مع الغزو الأمريكي وحمى العراق من “الدواعش”، تماما مثل السلاح المتفلت المقصود في لبنان، وهو سلاح حزب الله الذي أجبر العدو الصهيوني على الانكفاء مرتين، انكفاء مذموما مدحورا، كما لعب دوراً حاسماً في هزيمة “الدواعش” وزوابعهم اللبنانية.
هذا من جهة الاستهدافات، أما من جهة التناقضات، فحدث ولا حرج في العراق كما لبنان، ذلك أن أعلى الأصوات على هذا الصعيد هي الأكثر تخزينا للسلاح وتدريبا عليه في لبنان وخارج لبنان، ولها صولات وجولات مسلحة، لا تخفى على أحد، بل إن أحد قادة التيار الصدري هدد بتحريك سرايا السلام المسلحة، وبالمثل القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، وتعتبر حادثة الطيونة أكبر دليل ذلك عندما قام مسلحون تابعون للقوات اللبنانية بإطلاق النار على مظاهرة سلمية.
والجدير ذكره، أنه في المعركة ضد الإرهاب الأصولي الداعشي والجماعات التكفيرية الأخرى، لم تطلق القوى (السيادية) رصاصة واحدة ضد هذا الإرهاب في لبنان، لا في رأس بعلبك ولا في غيرها، فيما اقتصر دور هذه القوى في العراق على مساهمات لا تنسجم مع قوتها الميليشاوية الضاربة.
5. العزوف المزعوم عن السلطة باسم التعالي على الجراح، والنأي بالنفس عن النيران المشتعلة، على غرار ما فعل الصدر والحريري بالاستقالة، وهي تكتيك معروف عبر الضغط الناعم على عنق الزجاجة حتى تنفجر من الداخل ويضج الشارع بالهتاف من جديد لهؤلاء العزوفيين الذين لا تشغلهم كراسي السلطة أبداً أبداً!
6. نقد القوى السيادية المزعومة للسياسة والأيديولوجيا بدعوى التركيز على المطالب الحياتية للجماهير التي (زهقت) الأحزاب والسياسة على إطلاقها، وهذا ما ينسجم بالضبط مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لإعادة إنتاج هيمنتها على العالم: مركز واحد للكون في واشنطن يتولى السياسية والتخطيط الاقتصادي وقرارات الحرب والسلم، مقابل محيط عالمي أشبه بـ”بلديات كبرى متناثرة” هنا وهناك.
7. قوى طائفية تروج نفسها كقوى عابرة للطوائف، وهذه ظاهرة مشتركة أخرى بين القوى المقصودة في لبنان والعراق، حيث تدعو قوى طائفية من بابها لمحرابها، إلى دولة عابرة للطوائف، مثل التيار الصدري في العراق، والقوات اللبنانية والكتائب والحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، بل إن بعضها أضيق من الطائفية، أو طائفة محالة إلى تقاليد إقطاعية وتوريث عائلي للأبد، مثل عائلة الصدر وجنبلاط والجميل وقيادة جعجع.
8. العامل المشترك الأخير، وقد يكون الأخطر، هو “الفتنمة” ذلك المصطلح الذي جرى ويجري تعميمه بنجاح وافر، ومنذ أن قامت الإمبريالية الأمريكية باختلاق دولة عميلة في جنوب فييتنام وحولتها إلى ما يشبه الميليشيا المدربة والمنظمة والجاهزة لقتال أبناء جلدتهم باسم الدفاع عن العالم الحر وقيمه، التي ليست سوى الليبرالية المتوحشة.
وإذا كانت أقلام الاستخبارات الأمريكية وأدواتها الإقليمية فشلت فشلا ذريعا في اختلاق نمط مؤثر من شيعة الأطلسي في لبنان، فإن نجاحها في العراق بات ملحوظا للغاية.

أترك تعليقاً

التعليقات