قلبٌ توقف وفكر ينبض
 

مرتضى الحسني

مرتضى الحسني / لا ميديا -
ككثير من طلاب العلم في كلية الشريعة والقانون أنا لست ممن يوطد علاقاته بأساتذته، أو بالأحرى يكثر من الأسئلةِ والمناقشات، لاسيما خارج القاعات، أو غيرها. لكنّي ممن تُشد أذنُهُ عند تطاير الحديث لما يدور حول خصوصيات الكلية، بالأحرى خبر وفاة أستاذتنا الجليلة د. إلهام المتوكل.
بلا مبالغة أو تكلّف، صُعقت من الخبر، أحسست بأنّي فقدتُ شيئاً عظيماً لم أُعطِهِ حق قدره. صحيحٌ لست كصديقي محمد الكريبي، أكثرُنا اهتماماً وعلاقة بفقيدتنا وحزناً عليها؛ لكنّي كنت ممن كبلهم الحزن إبان سماع الخبر وشعرتُ بأنّي أكثرهم ألماً فيما بعد.
بعد سماعي الخبر مباشرةً تصفحت حساب الدكتورة في موقع «فيسبوك»، فإذا بالدمع يفيضُ من مقلتيَّ فجأة. وجدتُ نفسي تتقلبُ بين أوجاعها، لم أستوعب أنّ الدكتورة إلهام، التي ارتبطنا بها صباح كل يوم أحد بمحاضرات الإدارة المحلية (المقيتة جداً منهجاً وتطبيقاً) وهي تنسج الصباح تعليماً وتُحيكهُ تفهيماً وتبسيطاً، تأتينا وكلها فقدٌ ووجع... لم أكن أعلم أن كل كحة يكحها صدرها تخفي وراءها ألمَ ثكلى ثكلت فلذة كبدها بخطأ طبي في ريعانِ شبابه، وأنها تُضمرُ شوق زوجة مخلصة وفيّة لزوج خطفتهُ قوى العدوان بعد عودته من مؤتمر اقتصادي في المغرب، بلا سبب غير أنّهُ هاشمي لقبهُ المتوكل، بدون أي احترام لمكانته العلمية والأكاديمية. لم أدرك أنّ كل تنهيدة تصدرها تُنبئُ عن بطء في خفقان قلبها الكبير الذي استهلكته تلك المادة وآلاف الطلاب الذين اصطفوا أمامها في قاعات الدراسة طيلة سنوات عمرها في كلية الشريعة والقانون... ببشاشتها وطيبتها لم تجعل أحداً يرى في وجهها أية تجاعيد حزن تُفشي سراً من نوائبها أو مصائبها!
كم قلّبتُ ذاكرتي لحظات تواجدنا في محاضراتها -التي ندمتُ على تضييعي لكثير منها- وهي تكرر طلاسم الإدارة المحلية وإخفاقات نظامنا المحلي تارةً، وتارةً تفريعات المدرسة الفرنسية والبريطانية في هذا المجال! وكم أذكرُ كتمة التنفس التي لا تكاد تفارقها يوماً وهي تحاول إسكات الطلاب المزعجين، الذين أعتقد أنهم أكثر النادمين على ذلك، وأنا أولهم، مع صديقي أسامة، الأكثر كلاماً والأقل تصنعاً، لاسيما ما يطرأ علينا وقت المحاضرات من مناقشة الخلافات السياسية ومحاولة حلحلتها وأبعاد المعركة الروسية الأوكرانية وأوروبا وثقب الأوزون... لا لشيء، وإنما أعراض سهر قضيناه بين أروقة شعر المتنبي وعمرو بن كلثوم وإبراهيم ناجي...
مازلت أرى ابتسامتها تلك في آخر محاضرتين لها قبل شهر من الآن. ربما القدر حفرها في ذهني كونها الأخيرة؛ فقد عرف ما سيأتي قبل الجميع، فهكذا القدر لا ينتقي من الشيء إلّا أجوده ويعرفُ أين ينصبُ رمحه، والموت حقٌّ لا مفرّ منه إلّا إليه، سنة الله في عباده؛ لكن ليس كل من مات تهتز له العقول والقلوب وتفيضُ حزناً وكمداً عليه، فبعضُ الموتى لا يرمشُ لرحيلهم جفن، وبعضهم تنعاه الأسماعُ والأبصارُ، فحبُّ المرء وقبوله هبةُ من الله يبثها في خلقه.
ماتت إلهام وقلبها معقودٌ شوقاً لزوجها الأسير، وعينها لم تكتحل بعد برؤيته، وعقلها يسبحُ في فلكه وما صار إليه، وفوق ذلك روح متلحفة بالصبر والرضى بما كتبه الله لها. ماتت والعالم يرى من عينيها مأساة شعب شتتته حربٌ ظالمة ومزقته أيادٍ غاشمة لم تُراعِ إنسانية ولا قيما ولا دينا. ماتت وأنا أراها أنموذجاً للصبر والجد والعلم والتنوير الفكري. فاضت روحُ إلهام ومعها ثلمةٌ تشهدُها جامعة صنعاء عموماً وكلية الشريعة والقانون خصوصاً، لا عوض لها، وخسارة ستشهدها أجيالٌ تفتقد لأساتذة كالدكتورة إلهام محمد عبدالملك المتوكل، بل وستعاني من تعقيدات مقيتة يتيهون فيها لا منقذ لهم مثلها. فكان الله بعونهم. أما نحن فيكفينا شرفا أن كنا آخر من التحق بها ونهل من صافي معينها. ماتت إلهام شخصاً؛ لكنها لم ولن تموت فكراً وعلماً مترسخاً بين أجيال تخرجت على يدها طيلة عمرها الذي أنفقته في خدمة التعليم الأكاديمي لبناء وطن دُمّر تدميرا واستُثمرَ فيه الجهل عبر عقود طويلة.

أترك تعليقاً

التعليقات