أحمد عز الدين

لأصحاب العقول والرؤى لكي يفهموا كل ما يدور ويحدث في المنطقة, الوسائل والأدوات والأهداف والصديق والعدو.

أحمد عز الدين - محلل سياسي واستراتيجي مصري -

منشدّون إلى مظاهر الأزمة لا إلى جوهرها. 
منغمسون في ما يتشكّل من أحداث على سطحها، لا فيما يتخلّق في باطنها. منشغلون بهوامشها لا بقلبها المحتقن! 
1 
ليس الخروج من حقبة والدخول في حقبة أخرى بمثابة فتح باب بين غرفتين، وإنما بمثابة ممر طويل، تتشارك فيه وتتداخل ملامح الحقبة الأولى والثانية، حتى تأتي النقلة أو نقطة التحول التي تشبه لحظة الانكشاف أو لحظة التنوير في الدراما، بعد أن تداخلت وتصادمت المصالح والمطامع والإرادات الناقصة، باعتبارها القمة أو الذروة الدرامية، التي يشّف فيها الصراع، ويستبين المصير النهائي لأبطاله وشخوصه وجمهوره. ولذلك لكأننا في محيط هذا الشرق الأوسط الكبير، قرب ذروة درامية تبدو فاجعة، لكن الخروج هذه المرة ليس خروجاً من الدراما، ولا حتى من الواقع، وإنما من التاريخ. ولن تخلو بعض صوره من صور «ماكبث» من مسرحية شكسبير الشهيرة، والذي كما عاش بالسيف مات بالسيف أيضا. 

دون مواربة، إن هذه الحقبة «الإسرائيلية»، هي المخلوق المشوّه الأخير للحقبة السعودية، وإنه عازم على المضي في تعريف نفسه بالقوة الجبريّة. وإذا كانت القاعدة وداعش والنصرة هي أقبح مخلوقاتها، فإن الجديد سيكون أكثرهم غمراً لضفاف الإقليم العربي بالدم والإكراه والفوضى، ذلك أنه بالتعبير الغربي، الشمال في الجنوب. والشمال هنا ليس معطى جغرافياً، وإنما معطى حضاري بالمعنى الغربي: الكامل، وهو لا يستطيع أن يؤثر في المنطقة، أو أن يمتطي جوادها الجامح، بالثقافة أو العقيدة، أو ميراث التاريخ، أو وشائج القربى وصلات الدم، أو حتى بميزان السلام والحقوق، فهو ليس جزءاً من لسانها أو من نسيجها الحضاري التاريخي، إذا لم يكن جزءا من مضادات حضارتها وتاريخها ومستقبلها، وتأثيره بالتالي لا يخرج عن أداتين متداخلتين: القوة العسكرية الغاشمة، والمغانم الاقتصادية الواسعة، وكلتاهما في مفهومه الخاص تستهدف خلف هيمنة إقليمية ذاتية، ليست امتدادا لهيمنة أمريكية أو أوروبية، وإنما متجاوزة لها، أي بناء إمبريالية كبرى في الإقليم، تمثل ضابط التفاعل الإقليمي المعتمد، أو بالتعبير الدارج في الأدبيات الاستراتيجية «الإسرائيلية»: «ضابط التحكم في التفاعل الإقليمي»، وهو مفهوم طوره العالم «الإسرائيلي» فيتال، وساهم في خلق العقيدة العسكرية «الإسرائيلية»، وأصبح واحداً من أهم عناصرها. 
وهي في مجملها عناصر جدّدت نفسها وأضافت إليها في ضوء النتائج العسكرية لحرب أكتوبر المجيدة، فقد تم تأهيل كل شيء داخلي أو إقليمي لصياغة وضع مضاد لها، هو بالمعنى والنتيجة والوصف مقلوب حرب أكتوبر. 

3
لسنا أمام مشهد عابر أو اعتيادي، وإنما أمام مشهد يمثل خروجاً مكتملاً شاذاً على منطق التاريخ العربي كله، فقد كان كل مركز قوة قيادي عربي عندما يشعر بدبيب الشيخوخة في أطرافه، هو الذي يعمد بشكل أو بآخر إلى نقل القيادة المركزية للأمة إلى مركز قوة عربي فتيّ جديد أكثر قدرة ومنعة على حماية العقيدة والذود عن الكيان العربي كله بتعدد مراكز قواه. 
حدث ذلك مع الانتقال من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية، ثم إلى الدولة الفاطمية، حتى أن الفاطميين أنفسهم رغم اختلاف المذهب هم الذين استدعوا الأيوبيين في أوج المعركة ضد الصلبيين، لكي يتسلموا القيادة منهم في عاصمة الأمة والإقليم. وإذا كان انتقال مركز القوة في كل مرة قد جوبه بتحديات وأطماع ذاتية الطابع، فإن الانتقال كان طبيعياً من عاصمة حضارية إلى أخرى، ومن قوة عربية منطفئة إلى قوة عربية بازغة، في كيان عربي ظلّت تتوهج في روحه الحيّة إرادة الحياة والمقاومة. 
هذه المرة فإن أحد مراكز القوة العربية، بعد أن شارك كمعول هدم لأركان أهم العواصم الحضارية في الإقليم، تحت وهم استحقاق القيادة وعوائدها، بالانخراط مفرداً طائعاً في الاستراتيجية الغربية المضادة للإقليم، هو الذي يعمد بعد أن سقط في برك متتالية من الفشل، إلى دفع القيادة إلى مركز قوة إقليمي طارئ وطارد لسلامة الإقليم ووحدته، ذلك أنه، بحكم تكوينه وأيديولوجيته التوسعية وعقيدته العسكرية الهجومية، يمثل أهم المضادات الطبيعية للعروبة والإسلام والدولة القومية العربية والنظام العربي معاً، متوهماً بضيق أفق تاريخي نادر أنه يمكن أن يقتسم معه ثمرة الإقليم، بعد أن يمكّنه منها ويمكّن له فيه. 

4 
تلك هي المرحلة الرابعة في الاستراتيجية الأمريكية المضادة للإقليم. ولقد سبق أن تحدثت عنها وعن المراحل الثلاث السابقة عليها بشيء من التفصيل. 
وهذه المرحلة الرابعة هي بالتأكيد قمة المراحل، وقمة الاستراتيجية المضادة، ولكنها ستمثل قاع الإقليم، إذا استطاعت أدواتها أن تفرض منطقها، وتركب قمتها، التي ستشكّل ذروة الدخول في حالة احتضار عربي طويل، فوق خرائط مفتوحة لتصدّعات وانقسامات في دول وأنظمة مجهدة وأخرى متداعية، فضلاً على صراعات إقليمية ممتدّة. 
ومن المؤكد أن السعودية بالدرجة الأولى ودول الخليج -ربما باستثناء واحد- شكّلت جميعها العنصر الفعّال في التمكين لبناء كافة مراحل هذه الاستراتيجية، بل وساهمت بشكل فعّال أيضاً في مقدماتها، فقد أمّنت عبور تلك المقدمات إلى أهدافها التالية. وتكفي في ذلك الإشارة إلى شهادة موثقة أدلى بها قبل شهور قليلة «جيراشنكو»، محافظ البنك السوفييتي الأسبق في عصر «جورباتشوف»، أنه ذهب إلى السعودية بطائرة خاصة، حيث تسلم عداً ونقداً مبلغ أربعة مليارات دولار ثمناً لتنفيذ طلب سعودي ملحّ، بأن تمتنع موسكو عن تقديم أي دعم للعراق في حرب الخليج الأولى. 
وكما بدأت في هذه الحرب مقدمات تأمين دخول قوات الغزو، بدأت تتكشف أيضاَ مقدمات دمج «إسرائيل» عملياً في معارك الإقليم. ولم يكن الدمج ساعتها إلا رمزياً، فمع استخدام القوات الأمريكية لقنابل «إسرائيلية» موجهة بالليزر هي «هاف تاب»، كان جميع أفراد القوات الأمريكية يرتدون أحذية كتب عليها: «صنع في إسرائيل». وفي المرحلة الأولى في الاستراتيجية الأمريكية، مدّ الجميع ظهورهم جسوراً عبرت عليها القوة الأمريكية كي يتم ذبح العراق من الوريد إلى الوريد. 

5 
غير أن الانتقال إلى مرحلة تالية من الاستراتيجية كان مبكراً للغاية، فقد بدأ التخطيط له والعمل عليه بعد عام واحد من الفتح الاستراتيجي لضرب العراق. وكانت حلقة التخطيط وتنظيم التعاون لخلق منظمة إرهابية بديلاً للقاعدة، ومشتقة من رحمها، مقتصرة على ثلاثة أجهزة مخابرات هي (CIA) و(M16)، و»الموساد». وسرعان ما اتسع الاجتماع التأسيسي لها في 19/2/2004 شمال شرق لندن ليضم، إلى جانب الحلقة الأساسية، مديري أجهزة المخابرات في تركيا وقطر ودولتين خليجيتين، إضافة إلى سفير دولة خليجية ثالثة في المملكة المتحدة.
 ومع بداية عام 2006 كان قد تم تعبئة بؤرة واسعة من الإرهابيين في العراق، حيث تكفلت السعودية بإطلاق النطفة التنظيمية الأولى لداعش داخل العراق، ثم توسيع حدودها ومد أطرافها، حيث أصبح الهدف المباشر هو نقل الحروب إلى داخل الدول، وتحويل الشرق الأوسط إلى بؤرة الاضطراب العالمي الكبير. وكانت السعودية في عام 2011 هي أيضاً المسؤولة عن إشعال ما بدا انتفاضة مسلحة في درعا السورية، وكان التمويل مفتوحاً والتسليح جاهزاً، مع تنظيم تعاون مع تركيا لفتح ممر آمن لدخول شمال سوريا لعبور إرهابيين اتسعت أعدادهم -وفق مصادر موثوقة- على امتداد سنوات الحرب إلى 370 ألف إرهابي ينتمون إلى تسعين دولة. وهكذا تم إنشاء جبهة النصرة وإحياء القاعدة وجيش الفتح لغزو شمال سوريا 2015، بينما كانت قطر ماضية بين عامي 2013-2015 في تقديم كافة صور الدعم لتحالف جيش الفتح والمحور التركي السعودي. 
وقبلها بين عامي 2011 - 2012 ملأت ماكينة الإخوان المسلمين بمليارات الدولارات، بينما كانت غرف العمليات العسكرية تضيء أنوارها في قاعدة إنجرليك بتركيا، وفي إربد بقاعدة الحسين الجوية بالأردن، مكتظة بضباط مخابرات ينتمون إلى الدول السابقة، إضافة إلى ضباط «إسرائيليين» وبريطانيين وأمريكيين. وقد وضعت الولايات المتحدة في خدمة أعمالهم التخريبية 6 أقمار صناعية، توفر لهم سبل توجيه الجماعات الإرهابية فوق مسارح العمليات، إضافة إلى قواعد عسكرية في تركيا، والأردن و قطر والعراق والسعودية، وكانت «إسرائيل» بالتالي قد أتيح لها أن تندمج عسكرياً بشكل كامل، في خرائط الهدم والتخريب والقتل. 
غير أن الدور الأمريكي في النهاية، كانت له اليد الطولي، توجيهاً وتنسيقاً ودعماً بالسلاح، بما في ذلك الإمداد بصورة مباشرة من الجو، بمشاركة «إسرائيلية» وبريطانية وفرنسية. 
هكذا فاضت نيران الإرهاب عميقاً في الميادين التي أريد لها أن تفيض فيها، وهكذا أضرمت النيران في عظام سوريا ثم ليبيا ثم العراق، بينما تكفلت ما أطلق عليها ثورات الربيع العربي بخلخلة قواعد الأنظمة العربية المجهدة أو المتصدّعة في مصر وتونس، تهيئة لصعود قوى عميلة للاستحواذ على السلطة تحت لافتة إسلامية برّاقة. وكما كان هدف المرحلة الأولى من الاستراتيجية هو ضرب فكرة العروبة، كان هدف المرحلة الثانية هو خلق صورة فاسدة للإسلام، تقطر فيها السيوف دماً وتتزاحم فيها تلال الرؤوس المقطوعة. 

تمثل الحرب على اليمن المرحلة الثالثة في الاستراتيجية الأمريكية دون شك فقد جمعت بين النمطين السابقين، الحرب بين الدول والحرب داخل الدول. 
لقد مضى ثلاث مائة وخمسون يوماً منذ أن نشرت «هيرالد تريبيون» تقريراً لأحد مراكز الأبحاث الغربية، أحصى عدد الغارات الجوية التي تعرض لها اليمن بـ90 ألف غارة، وهو ما يعني أن الغارات الجوية يومياً تساوي 132 غارة، وأن هناك غارة كل 12 دقيقة، وهذا ما يفسر أن التكلفة اليومية للحرب على اليمن بلغ متوسطها العام 250 مليون دولار، وكان العنصر الثاني بعد تخفيض أسعار البترول في اقتراب السعودية من الدخول في أزمة اقتصادية مستحكمة. 
لقد كان ذلك قبل عام كامل، وقبل أن نصل إلى رقم 1000 يوم من الحرب والقتل والدمار. وإذا تصورنا أن العام الأخير قد عكس بدوره المتوسط العام نفسه لعدد الغارات، فنحن أمام رقم غير مسبوق في تاريخ الحروب، يتجاوز 130 ألف غارة، وإذا تصورنا أن كل غارة تحصد من أرواح اليمنيين شهيدين اثنين (وهو رقم مضلل طبعا، لأن غارة واحدة على بيت أسرة واحدة في صعدة قبل يومين حصدت 12 شهيداً، نصفهم من الأطفال والنساء) مع ذلك فإن عدد الشهداء وفق منطق هذا الحساب يتجاوز بالتأكيد ربع مليون شهيد يمني، ثلثهم على الأقل من الأطفال والنساء، بينما ما تزال الأمم المتحدة متمسكة بأعداد الشهداء نفسها التي أعلنتها قبل عام كامل، وهي 10,000 شهيد. 
أما بصدد التكلفة الاقتصادية للحرب، فيمكن أن نضيف أرقاماً أخرى سوف تجعل تكلفة الحرب على اليمن تكاد أن تتجاوز تكلفة الحرب على سوريا، فهناك -مثلاً وكما قالت «فورين بوليسي»- ثمن تأجير بارجتين حربيتين أمريكيتين لمدة 6 أشهر بإيجار يومي لكل بارجة 150 مليون ريال سعودي بما يساوي 54 ملياراً خلال هذه الشهور، وهناك منحة سعودية مع بداية الحرب للولايات المتحدة وأوروبا تم بموجبها منح البترول السعودي بأسعار مخفضة لمدة 3 أشهر مثلت في التقدير الاستراتيجي السقف الزمني الأعلى للحرب، وقد كانت تكلفة هذه المنحة 15 مليون ريال سعودي يومياً بإجمالي 13 مليار ريال... إلخ. إن هدفي من هذه الأرقام ليس تقديم حساب للتكلفة الاقتصادية لهذه الحرب، ولا حتى لتكلفتها الإنسانية والبشرية، وإنما أن تفتح هذه الأرقام على الجانبين بابا واسعاً لدخول سؤال أكبر: لماذا تم ويتم قذف كل هذا الكمّ من النيران وهذا الكمّ من الأموال في اليمن؟!
ماذا في اليمن أو في مشروع الحرب على اليمن، يستحق عن جدارة كل ذلك؟!
سوف يكون من قبيل السخرية أن يتصور أحد أن جدارة هذا الاستحقاق تتعلق بالدفاع عما يسمى «الشرعية». وربما يكون من قبيل التضليل أن نتحدث عن الحديقة الخلفيّة للسعودية، أو حتى عن مواجهة الدور الإيراني. 
مازال السؤال معلقاً: ماذا في اليمن أو في مشروع الحرب على اليمن يستحق عن جدارة ذلك كله؟!
أعتقد جازماً أنه إن لم تكن الحرب على اليمن هي قلب مشروع الدخول في الحقبة «الإسرائيلية»، فإنها في الحد الأدنى رئته، ولذلك فإن الجميع لم ينظروا إلى هذه الحرب من منظور استراتيجي صحيح، وصغروها إلى مستوى متدنٍّ لا يليق مطلقاً بأهدافها الاستراتيجية الكبرى، وارتباطها بإعادة صياغة الأوزان الاستراتيجية في الإقليم، وإحداث تغيير جيوستراتيجى كامل في بنيته، هو أشد ما يكون ارتباطاً بالدخول في الحقبة «الإسرائيلية» الجديدة، وأكثر ما يكون اتصالا بخنق قلب الإقليم، وإعادة تعريف حدوده. 

يبدو أن السؤال السابق ما يزال معلّقا، وقد يمر الطريق للإجابة عليه بالنقاط التالية: 
أولاً: في 17 يناير عام 2016 أصدر معهد الأمن القومي «الإسرائيلي» وثيقة تحت عنوان: 
«التهديدات الأمنية في القرن الواحد والعشرين: تقدير الموقف الإسرائيلي الاستراتيجي الراهن». 
كان أهم ما في الوثيقة محددات ما أطلقت عليه «فرص استحواذ «إسرائيل» على تحسين موقفها وكسب التميز الاستراتيجي والقيام بعمليات اختراق في العمق العربي». 
وقد حددت الوثيقة هذه الفرص في أربعة عناصر:
1. وجود الصراع السني الشيعي واندماج «إسرائيل» فيه. 
2. انحدار الهوّية القومية العربية. 
3. الفوضى الإقليمية. 
4. كسب شركاء على المستوى المحلي مؤقتين أو وكلاء أمنيين رئيسين في المستقبل. 
وهذه بالضبط هي المحاور التي تحركت «إسرائيل» فوقها، بقوة دفع أمريكية وغربية، وبانخراط سعودي وإماراتي كامل. 
ثانياً: المتتبع لتطور مفهوم الأمن «الإسرائيلي»، خاصة فيما يتعلق بوظيفة «إسرائيل»، يمكنه أن يجد أن هذا المفهوم قد انتهى إلى أن تصل فاعلية «إسرائيل» إلى حدود جميع أجزاء القسم العربي من المحيط الهندي، وأن حدود هذا الأمن «الإسرائيلي» يمتد من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي، وفي القلب منها منطقة الخليج العربي، وهكذا فقد توسعت «إسرائيل» في مفهوم الأمن إلى حدود خارج المصطلح نفسه، وتم وضع منطقة الخليج داخل دائرة الأمن القومي «الإسرائيلي». 
ثالثاً: من المؤكد أن المحيط الهندي قد انتزع المكانة الأولى استراتيجياً بما في ذلك مكانة أوروبا في إطار الصراع الدولي الحالي، فبؤر التوتر الرئيسية تدور من حوله، شرقية في بحر الصين، غربية في المتوسط، وبينهما البؤرة الآسيوية، وهو في الوقت نفسه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخليج العربي. 
رابعاً: جوهرياً، ما يتم حالياً هو نقل محور الدفاع عن الخليج من المحيط الهندي إلى «إسرائيل»، مع ملاحظة أن جمع أمن الخليج وأمن «إسرائيل» في سلة واحدة، قبل السعي لوضعهما في سلة «إسرائيلية» واحدة، سابق على ذلك بسنوات، فقاعدة «السيدية» التي تتمركز فيها الوحدة الجوية الاستكشافية الأمريكية 379، بوصفها خط الدفاع الأول ضد إيران، تتمتع بوظيفة مزدوجة: حماية الحلفاء في الخليج، وحماية «إسرائيل» في الوقت نفسه. 
خامساً: شكلت السعودية والإمارات قوة بحرية مشتركة تحت اسم «قوة البحر الأحمر» لها قوة برية في شمال ميناء مصوع وقاعدة جوية في مطار عصب وقاعدة بحرية في مرسى درما. وقاعدة «عصب» نفسها يتواجد فيها ضباط أمريكيون و»إسرائيليون» وبريطانيون بمشاركة ضباط سعوديين وإماراتيين. وهذه القوة، هي نواة الجانب الخليجي في مشروع أكبر لإنشاء منظمة يخطط لإطلالتها في عام 2018 تحت اسم «تحالف البحر الأحمر والخليج العربي»، بمشاركة «إسرائيلية» بالطبع، وهي منظمة ذات طابع أمني وعسكري في إطار مشروع متكامل لا وقت للدخول في تفاصيله. 
سادساً: الهدف الأساسي من السيطرة على موانئ الحديدة، المخا، وعدن، هو التمهيد لتغيير جيوستراتيجي، ليس في اليمن فحسب، بل في المنطقة كلها، فالأهمية الاستراتيجية للحديدة تكمن في أنها مركز الموانئ البحرية المقابل لميناء عصب الإريتري، ومن يضع يده عليها يسيطر تماماً على الخط التهامي بطول 500 كم، ولذلك فإن الحرب على اليمن التي يتشارك فيها السعوديون والأمريكيون و»الإسرائيليون» والإماراتيون هدفهاً منذ الوهلة الأولى تفكيك الدولة اليمنية وإعادة بنائها على قاعدة أقاليم ستة، تتمتع بصلاحيات سيادية مطلقة إلى حد عقد صفقات خارجية لصالح هؤلاء الشركاء تحديداً، وبالدرجة الأولى «إسرائيل». 
سابعاً: مشروع الجسر الذي أطلقوا عليه اسم «جسر النور» لربط عدن بجيبوتي هدفه ربط عدن بالقواعد العسكرية الغربية في جيبوتي وفي القرن الأفريقي عموماً، حيث لإثيوبيا -الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة- الكلمة الفصل، وهو ما يعطي تفسيرات أعمق لمشروع سد النهضة الإثيوبي. 
ثامناً: التفاهمات «الإسرائيلية» السعودية والإماراتية سابقة على الوضع الراهن بسنوات، والوثيقة التي كشف عنها أحد المسؤولين في حزب «ميرتس»، «الإسرائيلي»، تشير بوضوح إلى اتفاق سعودي «إسرائيلي» بشأن باب المندب. كما أن هناك مذكرة تفاهم سعودية خاصة بتنظيم الملاحة في البحر الأحمر منذ عام 2014. والمعلومات حول التفاهمات بين السعودية و»إسرائيل» حول باب المندب وفيرة للغاية، ومن مصادر أمريكية وعلى سبيل المثال فموقع «القرن 21» الأمريكي هو الذي كشف عن لقاءات في الأردن بين السفيرين السعودي و»الإسرائيلي» تم فيها إبلاغ «إسرائيل» بموافقة السعودية على منح «إسرائيل» بناء قاعدة في باب المندب. 
تاسعاً: «إسرائيل» متورطة حتى النخاع في الحرب على اليمن منذ البداية، فالمعلومات المؤكدة تشير إلى أن القنبلة (النيوترونية) التي ألقيت على جبل «نقم» في 29 مايو 2015 قامت بها طائرتان «إسرائيليتان» من طراز (F16)، وأن هناك سرباً من الطائرات «الإسرائيلية»، انضم إلى العمليات في اليمن منذ ذلك التوقيت، وقد شن أول غاراته على معسكر للتدريب في تعز، بل إن القناة العاشرة «الإسرائيلية» هي التي اعترفت علناً بأن «إسرائيل» شريك رئيسي في الحرب على اليمن، وتضمن اعترافها مشاركة بعدد 42 طياراً «إسرائيلياً» وبعسكريين شاركوا في قيادة عدة محاور على الأرض، كان أهمها باب المندب وفي المخا إضافة إلى 70 خبيراً عسكرياً وفنياً وخبراء رادارات مشاركين آنذاك في إدارة غرف العمليات. 
عاشراً: عندما تحدثت في البداية عن مقلوب حرب أكتوبر، لم أكن مبالغا، لثلاثة أسباب: 
الأول: أن الجيش المصري العظيم قد استطاع في هذه الحرب أن يفرض للمرة الأولى في تاريخ الحروب نمطاً جديداً للحصار البحري، وهو الحصار من بُعد، ارتكازاً على باب المندب، وما يجري هناك يكاد أن يشكل مقلوب هذه الحالة. 
الثاني: أن شبه جزيرة سيناء في إطار هذا الإقليم لا تشكل القاعدة فحسب، ولكنها قلبه، ولذلك فإن كل ما يجري من حولها يستهدفها بشكل أو بآخر. 
الثالث: أن القفل المركزي للبحار والمحيطات بين نصف الكرة الغربي ونصف الكرة الشرقي يقع في قناة السويس، ولذلك فإن التساؤل يكون مشروعاً عن محاولة صنع قفل ومفتاح بديلين في عدن وباب المندب، فضلاً عن أن البحار المفتوحة تتحكم في البحار المغلقة.

8
عندما ثارت مصر في 30 يونيو، فإنها دون جدال لم تهشم واجهة الاستراتيجية الأمريكية فحسب، ولكنها أضافت وقوداً هائلاً ومتجدداً لشعلة مواجهة هذه الاستراتيجية، ولقد دفعت مصر وما تزال ثمناً باهظا غير منظور ولا محسوب، للمهمة الثورية التي أنجزتها. ومع الصمود الكبير الذي أبداه الجيش السوري والجبهات العراقية واليمنية المقاتلة، في مواجهة ودحر القوى المضادة والفصائل الإرهابية، فقد بدا أن الاستراتيجية رغم كل ما أنتجته من بحيرات دم وتلال ضحايا، وأنقاض مدن، عاجزة عن تحقيق نصر استراتيجي. 
إن النصر الاستراتيجي هو ما يبقي عليه الزمن. وليس شيئاً واحداً في هذا المنتوج والخراب وأدواته يمكن أن يكون مزمناً، أو أن يكون مما يمكن أن يبقي عليه الزمن، أو يتصالح معه الزمن. 
لقد كان من المفترض وفق ترتيبات الاستراتيجية الأمريكية أن تأتي ذكرى وعد بلفور وقد حققت المرحلة الرابعة من هذه الحرب نتائجها الحاسمة، وهو ما لم يتحقق، ولذلك كان لابد من تحقيق نصر يبدو استراتيجياً تكون عوائده المعنوية على الجانبين إيجاباً وسلباً واسعة التأثير، بل ويرمي وقوداً جديداً لإشعال مزيد من حالة الانقسام والفوضى، فضلاً عن القنوط والغضب واليأس، إضافة إلى أن يكون تحديداً ملزماً لشروط مسبقة لعلاقات طبيعية مع «إسرائيل»، خاصة بعد أن فشلت أربع محاولات لإحداث تفجير كبير في الإقليم: كانت أولاها محاولة إعلان كردستان دولة مستقلة، وكانت ثانيتها في مصر بعملية إرهابية كبرى في جامع «الرحمة» في سيناء، وكانت ثالثتها بمحاولة إحداث تفجير أكبر بين الفرقاء في لبنان، ثم كانت رابعتها بمحاولة إحداث تفجير أوسع بين الحلفاء داخل اليمن ينهي صمود ثلاث سنوات من المقاومة ويصنع بحراً من الدماء بعد شق العنق قبل ذلك بشهور قليلة (سبتمبر الماضي) كانت الولايات المتحدة تفتح قاعدة أمريكية في صحراء النقب المواجهة لسيناء، وكان الجنرال زفيكا هاميفوتشي هو الذي يؤكد في خطاب الافتتاح أن القاعدة افتتحت لتبقى، وخصصت لها موارد كبيرة، وأن الهدف من انشائها هو مساعدة «إسرائيل» في تشغيل نظام الدمج الصاروخي «الإسرائيلي» متعدد المستويات، وكان هناك من علّق على ذلك بالصحف الأمريكية قائلاً إن إدارة ترامب تجري استدارة كبيرة في الشرق الأوسط، وكان هناك -غربياً- من رأى أن القاعدة جزء من استراتيجية «إسرائيلية» جديدة لإعادة رسم الخرائط السياسية وأشكال التحالف في الشرق الأوسط. 
بعدها بقليل كانت أمريكا تعلن الإبقاء على مستويات قوتها العسكرية في سوريا، مما أعطى انطباعاً بالاستعداد لشن هجوم أمريكي مباشر لوأد النجاحات السورية. بعدها بقليل كان الجنرال مارك مايلي، رئيس أركان الجيش الأمريكي، يقيم ندوة في نادي الصحافة في واشنطن لـ»تصحيح المفاهيم الخاطئة»، وكان أهم المفاهيم التي قام بتصحيحها نفي مبدأ الحرب القصيرة، ومبدأ الفوز بالحرب من بعد، ومبدأ أن القوات الخاصة تستطيع كسب المعركة. أما الجديد الذي أضافه فهو -أولاً- أن الولايات المتحدة تحتاج إلى زيادة حجم جيشها بسبب عدم معرفة ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، وهو -ثانياً- أن الجيوش ستضطر إلى أن تخوض حروبها في مناطق حضرية عكس الماضي. 
بعدها بقليل كان الكونجرس الأمريكي يلغي قراراً للإدارة السابقة بعدم مشروعية المشاركة الأمريكية في الحرب على اليمن، وكان القرار الذي تم إلغاؤه يعني سحب القوات الأمريكية المشاركة، ووقف دعم الحرب، وبالتالي فإن إلغاءه يعني التدخل المباشر عسكرياً ودعم الحرب.

9
لقد نشأت قبل ذلك، على حواف برك الدم، امبرياليات إقليمية صغرى، ظنت نفسها، بالدور التابع وبتمويل هدم شقيقاتها، أنها اكتسبت حقوق القيادة، رغم أنها تابعة طوال الوقت، ورغم أنها جمعت طوال الوقت ودون أن تدري بين كونها أداة هدم ومشروع فتنة وفوضى، وأنها في ذاتها ولذاتها مشروع هدم وفتنة وفوضى في مرحلة لاحقة. لكن السقوط المدوي، في دوائر متتالية من الفشل، ولّد لديها شعوراً أكبر بالخوف والتهديد، ولهذا سرعان ما عمقت من جسورها المفتوحة مع «إسرائيل»، متصورة أنها يمكن أن تقتسم ثمرة الإقليم معها. لكنها دون أن تدري وضعت نفسها في محنة ابتزاز عاصف. كان مظهر الابتزاز مالياً، ولكن عمقه لم يكن كذلك، وإنما يتعلق بالقبول العلني بـ»إسرائيل» وبدمجها في الإقليم، ولكن بشروط «إسرائيل»، أي «إسرائيل» وعاصمتها القدس، و»إسرائيل» التي حولت مشروع السلام وحل القضية الفلسطينية إلى مشروع لتصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وعلى نحو جذري. 
ويبدو من حديث لأكاديمي «إسرائيلي» كبير هو «موردخاي كيدار»، عقل مركز بيجن - السادات للدراسات الاستراتيجية في جامعة بار إيلان، أن سعار الخوف قد وصل إلى درجة اقتراح اتفاقية دفاع مشترك مع «إسرائيل»، فقد كان رد كيدار العلني واضحاً: «أحذّر من اتفاقية دفاع مشترك مع هذه الدولة». أما مبرره فكان فاجعاً؛ لماذا؟! «لأنها لم تحترم اتفاقية الدفاع المشترك مع العراق، بل وعملت ضدها». 
ثم ماذا عن السلام؟! يقول «كيدار» بوضوح أشد: «السلام بالسلام، والتطبيع بالتطبيع، والاعتراف بالاعتراف، ولن تدفع «إسرائيل» ثمناً باهظاً من أجل أي اتفاقية سلام». ثم كتب كيدار وثيقة للسلام من نقاط عشر، يعفَ قلمي عن إعادة نسخها. 

10
لقد قلت إنه مع عدم نجاح الاستراتيجية الأمريكية في تحقيق نتائجها الحاسمة، كان لا بد من تحقيق نصر يبدو استراتيجياً تكون عوائده المعنوية واسعة التأثير، ويرمي وقوداً جديداً لإشعال مزيد من حالة الانقسام والفوضى، فضلاً عن القنوط والغضب واليأس، إضافة إلى أن يكون تحديداً ملزماً لشروط مسبقة لعلاقات طبيعية مع «إسرائيل»، وهكذا التقى عاملان بشكل حاسم: تحقيق نصر يبدو استراتيجياً بعوائده، وتمدد امبرياليات صغرى بطموحات ذاتية مريضة تريد أن تحقق السبق والقيادة، ساعية -تحت وطأة خوف غريزي- لتحصين سلطتها بقبول مذل لكل شروط الاندماج في المشروع، متخلّصة من قيود المبادئ والقيم والتاريخ، ضاربة عرض الحائط بالنظام الإقليمي العربي، وضرورات أمنه القومي. وهكذا جاء إعلان القدس عاصمة لـ»إسرائيل» صريحاً مدوياً وتعبيراً مباشراً عن التقاء هذين العاملين، وتعبيراً مباشراً أيضاً وعن تدشين «الحقبة الإسرائيلية» الجديدة، تحقيقاً لإحداث انقلاب استراتيجي شامل في الإقليم.
وفي بيئة إقليمية بالغة السوء، ووسط موازين قوى مختلّة، وفي قلب عواصف تهديدات بازغة تهب من كل اتجاه، تبدو الخيارات محدودة، فضلاً عن أنها بالغة الصعوبة، عالية التكلفة، فخيار الحقبة السعودية يوشك بحكم الطبيعة على الأفول، وخيار «الحقبة الإسرائيلية» هو بحكم المصالح الوطنية العليا والأمن القومي، بكل ما يحمله من انحناء ورضوخ، لن يكون إلا آلة لإنتاج مزيد من الانقسام والفوضى. أما الخيار الثالث، وهو الوقوف بين الخيارين السابقين، فهو الأكثر صعوبة، والأعلى تكلفة، فقد ثبت أن استراتيجية الملاينة ليست طريقاً لطلب السلامة والأمن. 
من المؤكد أن ثمة تحالفات وانقسامات جديدة سوف تسعى إلى أن تعبر عن نفسها، ولن تكون وقفاً على الأسطح الفوقية للدول القومية في الإقليم، ولكنها فوق ذلك ستكون شروخاً بالطول والعرض والعمق، في هياكلها وأبنيتها، فقوة الزلزال أكبر من أن يتم امتصاصها بوسائل تقليدية على غرار مرات سابقة. 
غير أن من المؤكد -أيضاً- أن خيار الدفاع عن الأمن القومي هو الخيار الأبقى والأصلح، والأقل تكلفة، رغم أنه يبدو الأصعب والأكثر تكلفة، ذلك أن بديله لن يكون سوى دخول العرب في حالة احتضار طويلة.

أترك تعليقاً

التعليقات