أحمد عز الدين

أحمد عز الدين / لا ميديا -
تجلس أحيانا لتحملق في الشاشات، فترى خرائط ممدودة مملوءة خطوطا وألوانا، وأشخاصا يتحدثون بصفتهم كخبراء استراتيجيين ومحللين، وهم يضفون على ما يقولونه المرجعية الأخيرة والرؤية الكاملة العميقة، لكنك سرعان ما تطفئ الأنوار ويعتريك إحساس عميق بأنك أمام واجهات إما أنها تعرض بضاعة تقادمت وانتهت صلاحيتها، بحكم المعرفة أو الزمن، وإما أنها تتعرض لتداخل إلكتروني من بعض الوحدات العسكرية الأمريكية في الإقليم.
في مرة سابقة قبل سنوات خرج الرئيس أوباما ليؤكد أن الإيرانيين لم يطلبوا من «الحوثيين» أن يدخلوا إلى العاصمة اليمنية صنعاء، وأذكر أنني قلت في اليوم التالي على شاشة التليفزيون المصري، إن أوباما لم يذكر غير نصف الحقيقة، لأن الحقيقة الكاملة تؤكد أن الإيرانيين لم يطلبوا من «الحوثيين» أن يدخلوا إلى صنعاء، ولكنهم طلبوا منهم -في أعقاب لقاء بين وزيري خارجية إيران والسعودية- ألا يدخلوا إلى صنعاء، وأن «الحوثيين» لم يستجيبوا لذلك، بل إن الإيرانيين بعدها تحولوا إلى عنصر معيق عندما أراد «الحوثيون» أن يتمددوا إلى الجنوب.
في هذه المرة وأمام سيل من أحاديث تفيض من الشاشات لتحقن جمهورا عريضا، بأن «الحوثيين» -أو الجيش اليمني على وجه الدقة- أطلقوا صواريخهم الباليستية وطائراتهم المسيرة نحو «إيلات»، مثلما اقتنصوا سفينة نقل «إسرائيلية» عند باب المندب بناء على أوامر إيرانية، أستطيع أن أؤكد أن الإيرانيين لم يطلبوا من «الحوثيين» أن يطلقوا صواريخهم أو مسيراتهم أو أن يقتنصوا صيدا في مياه البحر الأحمر، بل طلبوا منهم على العكس من ذلك أن يتمهلوا وألا يدخلوا طرفا مباشرا في الحرب الآن، لكن «الحوثيين» لم يستجيبوا لذلك أيضا، وتلك هي الحقيقة ناصعة دون رجم بالغيب.
أقول ذلك لأن التشبث بتلك النظرية المرتجلة المكررة عن أن إيران تمتلك ثلاثة أذرع في الإقليم تقوم بتحريكها في الوقت الذي تراه وبالأسلوب الذي تختاره، هي نظرية محدودة الرؤية، فوق أنها نظرية ملولة وكسولة، لأنها لا تريد أن ترهق نفسها بالبحث في ما هو أعمق من السطح، وما يمكن أن يترتب عليه من أسباب ونتائج، إضافة إلى أنها تنتزع من أي قوة مقاومة خصوصيتها وجذورها وبنيتها الذاتية، وبالتالي تفاعلاتها الخاصة في بيئة استراتيجية مختلة على جانب، ومفتوحة أمام متغيرات عاصفة على الجانب الآخر، فضلا عن أنها تقوم بتنزيل قوى لها أيديولوجيتها الخاصة وتكوينها التاريخي الخاص وبيئتها الخاصة من موقع صاحب الدور والرسالة إلى موقع التابع والعميل، كما أنها لا تنتج بناء على ذلك إلا مخرجا واحدا هو التفاهم مع إيران، أو ضرب إيران، أو التنازل أمام إيران، باعتباره السبيل الوحيد في هذه الحالة لإسكات كل البنادق العربية، التي تطل من نوافذ المقاومة بامتداد وعمق الإقليم.
ومادام الحديث موصولا بـ»الحوثيين»، وبالتالي بالحرب على اليمن، ومساراتها الممتدة، فإنني أعيد التأكيد على أن الحرب على اليمن، لم توضع في ميزانها الاستراتيجي الصحيح من قبل الجميع، بمن في ذلك نخبة الاستراتيجيين العرب، كما أن روح اليمن بتراثها الحضاري والثقافي لم توضع بدورها في ميزان تاريخي صحيح، فقد مثّلت الحرب على اليمن واحدا من أهم محاور الوصول إلى قمة الانقلاب الاستراتيجي في الإقليم، كما شكّلت قمة أخرى في الاندماج الوظيفي العسكري، بين أمريكا و»إسرائيل» والسعودية والإمارات لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية حول البحر الأحمر وعلى محور البحر الأحمر المحيط الهندي، من أقصى شمال المحور إلى أقصى جنوبه، بما في ذلك كافة امتداداته العرضية، سواء في اليمن أو القرن الإفريقي، وصولا إلى إثيوبيا وسد النهضة ومنابع النيل وشرق السودان.
أستطيع أن أعيد التأكيد أيضا، أن «الحوثيين» أو أنصار الله، وعلى رأسهم قائد ثورتهم عبدالملك الحوثي، يتمتعون بنزعة استقلالية واضحة، ومن سوء الفهم أو سوء القصد، أو منهما معا، تنزيل مكانتهم ودورهم وخصوصيتهم، إلى مستوى التبعية أو العمالة، خاصة إذا كانت مظاهر التبعية فوق كثير من خرائط الإقليم لا تحتاج إلى كشافات ضوئية لتتبعها، أو البحث عنها.
إن تدخل «الحوثيين» الآن في حرب تبتعد نيرانها عنهم بمئات الكيلومترات، ليس مجرد تعبير عن مساندة للمقاتلين في غزة، وليس مجرد تأكيد على موقفهم من قضايا العروبة وفلسطين، وليس مجرد تذكير بأنه بعد شهر واحد من الحرب على اليمن كانت غرفة العمليات التي توجه الحرب في السعودية تضم عشرين خبيرا عسكريا أمريكيا، قبل أن تتسع بعد شهر واحد لتضم 42 خبيرا عسكريا، كان أكثر من نصفهم من «الإسرائيليين»، وليس مجرد تنبيه إلى أن ما تتعرض له غزة تحت سطوة الطيران «الإسرائيلي» هو صورة أخرى لما تعرضت له اليمن من سلاح جوي هجين، طالت صواريخه وقنابله الثقيلة كل شيء، من المدارس والمستشفيات والمباني السكنية ومحطات المياه والكهرباء والمساجد إلى السجون، ولم يسلم منها حتى النصب التذكاري للجندي المصري المجهول في صنعاء.
إن كل هذه العناصر مجتمعة صحيحة دون شك، لكنها لا تستطيع أن تخفي الهدف الاستراتيجي اليمني من وراء هذه الصواريخ والمسيرات، وهو على وجه التحديد تحدي وكسر نظرية الردع الأمريكية التي تغطي فضاء الإقليم، فهناك عمل يمني تراكمي تم تصويبه في هذا الاتجاه.
لقد سبق أن ذكرت أن أول طلقة إشارية أطلقتها الولايات المتحدة، لبناء نواة أول نظرية للردع في الإقليم، تمثلت في دورية جوية في سماء الشرق الأوسط، تضمنت طائرة من طراز (B52) تحيط بها ثلاث طائرات من طراز (F16) تنتسب إلى ثلاثة أسلحة جوية هي «إسرائيل» والسعودية وقطر، مصحوبة ببيان من القيادة المركزية الأمريكية عن مسؤولية أمريكا عن أمن الإقليم من خلال تطبيق عملي لنظرية الردع، وقد تم ذلك في يوم 7 مارس 2021، لكن «أمن الإقليم» و»الردع» لم يبق على ثباته من قبل الجيش اليمني ليوم واحد، ففي اليوم التالي مباشرة 9 مارس 2021، انطلقت 14 طائرة مسيرة هجومية متزامنة تقريبا مع 8 صواريخ باليستية، لتضرب مراكز استراتيجية وعسكرية وحيوية في عمق السعودية، كان على رأسها ميناء جسر التنورة شرق المملكة، إضافة إلى مواقع وأهداف عسكرية بمناطق الدمام وعسير وجيزان، وكما كان انطلاق صواريخ الحوثيين ومسيراتهم في المرة الأولى، يشكل في توجهه الاستراتيجي تحديا لنواة بناء نظرية أمريكية للردع في الإقليم، كان انطلاقها في المرة الأخيرة، يشكل نفس التوجه في مواجهة سقف الردع الأمريكي الذي اعتلى بالقوة فضاء الإقليم، يضاف إلى ذلك أن الجيش اليمني قد أدرك بعمق تلك العلاقة المتلازمة بين عنصري «الوقت» و«الردع» في الحرب على غزة، وانتزع وحده المبادرة لتحويل نظرية الردع الأمريكية في الإقليم إلى لوحة للتنشين.

كاتب مصري

أترك تعليقاً

التعليقات