أحمد عز الدين

أحمد عز الدين / لا ميديا -
انتهت المسافة تماما بين القوة والحق، كما انتهت المسافة بين القوة والحقوق، فقد أصبحت القوة أمريكية أو «إسرائيلية» أو أوروبية، مطلقة الإرادة، مطلقة الحق، كما أنها مرجعية نفسها باعتبارها -وليست الليبرالية- الكلمة الأخيرة في تاريخ البشرية، الأمر نفسه يطول مفهوم الأمن في صيغه المضادة، فقد توسع بقدر ما تغير، من الأمن النسبي ومن توازن الأمن إلى الأمن المطلق..
بل إن مواثيق الحرب التي جاهدت البشرية قرونا طويلة لكي تخلق من خلالها نوعا من أنسنة الحرب، قد انتهت بدورها وأصبحت العودة مشروعة إلى الحدود التي كانت عليها الحروب قبل ثلاثة قرون ونصف، عندما كانت المسافات غير قائمة بين الشعوب والحكومات، وبين المدني والعسكري، فقد أصبحت أكثر تعبيرا عما أطلق عليه مفكر صيني قديم «استراتيجية قذف البيض بالأحجار».
إن ما تمارسه «إسرائيل» عسكريا في غزة يعكس موروث همجية أمريكا في حروبها في القرن الثامن عشر، كما يعكس موروث وحشية أوروبا في حروبها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهو موروث تريد أمريكا أن تفرضه على «الشرق الأوسط» بقوة الردع، أو بقوة السلاح، وحتى عمليات الإبادة والتطهير، التي تمارسها «إسرائيل» بالقوة المسلحة، ليست مستحدثة، بل هي بعيدة الجذور في العقل الأمريكي، تمتد فوق ممر طويل من النطفة الأمريكية الأولى، وحتى بناء الإمبراطورية، فأمريكا والغرب يفرضون على النظام الإقليمي العربي حالة مرضية، من فقدان الهيبة التاريخية، وهي ليست مجرد نظام معنوي فقط، يضفي على الأنظمة والسلطات قدرا من الاحترام قبل القبول العام، إنما هي قاعدة أصيلة لبناء نظرية صحيحة للردع، فالقوانين الذاتية للقوة الآن أصبحت كقوانين رأس المال، سواء بسواء، توجها كاملا إلى التكثيف وإلى التراكم وإلى التوسع وإلى إضاءة الحواس وإطفاء الروح.
غير أننا في الحقيقة لم نعد نواجه نظرية ردع أمريكية وغربية، ذلك أن التغاضي عنها يعني القبول بها، ويعني تحولها عمليا إلى استراتيجية قسر، أي فرض الاستسلام أو التكيف مع الأمر الواقع، ونزع واستئصال إرادة المقاومة.
لذلك، فإنني لا أعتقد أن الضربات الجوية والبحرية، التي وجهتها أمريكا وبريطانيا إلى اليمن، هدفها الأساسي هو التشويش على عملية الإبادة وجرائم الحرب، التي يرتكبها الجيش «الإسرائيلي» في غزة، ولا إعادة طلاء «سيف الردع الأمريكي» بدماء يمنية فحسب، وليست تعبيرا مباشرا عن فشل الدبلوماسية الأمريكية، التي تقودها البوارج والمدمرات وحاملة الطائرات، كما أنها في تقديري ليست على نحو خالص نيابة عن «إسرائيل»، وإنما بالأصالة أيضا عن نفسها، في حيز أهم ممر بحري في الكرة الأرضية، بتخومه والممرات الاستراتيجية التي يتحكم فيها.
لقد أكدت على امتداد سنوات أن ما يجري في البحر الأحمر وتخومه الإفريقية في القرن الإفريقي، والممتدة حتى شرق السودان ومنابع النيل، وكذلك الآسيوية امتدادا إلى المحيط الهندي والخليج العربي، إنما يستهدف في النهاية تصنيع مفتاح وقفل بديلين للمفتاح والقفل اللذين تنفرد بهما قناة السويس كمفصل حاكم بين نصف الكرة الأرضية الشرقي ونصفها الغربي، وأحسب أن ما جرى ويجري من حرب على اليمن، لا يخرج في أحد أسبابه عن هذا الهدف، وما جرى ويجري على امتداد أكثر من عشر سنوات، كان هدفه هو استحواذ أمريكا على البحر الأحمر، وتحويله إلى قاعدة وثوب ليس إلى بحر العرب أو هرمز فحسب، وإنما إلى المحيط الهندي، والدور الذي تقمصته «إسرائيل» والسعودية والإمارات، على امتداد هذه السنوات لم يخرج عن خلق مسرح جديد، يتم من خلاله تثبيت أقدام أمريكا و»إسرائيل» في البحر الأحمر، بعد أن تم فتح بابه المغلق أمام «إسرائيل» إلى الخليج جنوبا، بما في ذلك محاولات إثيوبيا للحصول على قواعد في الصومال، وهي محاولات تجددت مؤخرا رغم أنها ظلت تتوثب لتحقيق ذلك على امتداد سنوات، يضاف إلى ذلك فائض أرباح أمريكا من الإضرار بصادرات الصين الهائلة عبر البحر الأحمر، فضلا عن امتدادات «مشروع الحزام والطريق»، إن ذلك لا ينفي عنصر الدفاع الأمريكي عن المصالح «الإسرائيلية» المباشرة التي حاصرها الموقف اليمني بعد أن توقفت 80% من مصانعها، وانخفضت نسبة السفن التي تصل إلى ميناء «إيلات» من 200 سفينة شهريا إلى 6 سفن قبل شهرين، إضافة إلى تكلفة الحرب على غزة التي تتجاوز 20 مليار دولار شهريا.
هل تريد أمريكا أن تعيد اكتشاف المعدن اليمني، صلابة وقوة وإرادة، بعد تسع سنوات من الحرب عليه، وكم تساوي مائة إغارة أمريكية أو ألف إغارة في ميزان ما تلقاه اليمن من إغارات جوية فوق صدره العاري، بلغت 214 ألف إغارة خلال هذه السنوات، جرى نصفها على الأقل بينما كانت الطائرات الأمريكية و«الإسرائيلية» والسعودية والإماراتية، تلعب في سماء مكشوفة ومفتوحة، دون أثر لعنصر دفاع جوي واحد، بينما كانت قوة النيران لدى اليمنيين لا تزيد عن منتوج الأسلحة الصغيرة.
لقد فرت المدرعات السعودية والإماراتية، أمام مقاتلين لا يحملون غير البنادق، ولا ينتعلون في أرجلهم شيئا، ويربطون على بطونهم أحجارا، لأنهم لا يملكون خطوطا للإمداد، لكنهم استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم، تحت القصف وبين سعير النيران، بناء منظومة هجومية من الصواريخ والمسيرات، لا تمتلكها أغلب الدول في الإقليم.
إن هذا ليس تحليلا للمواجهة العسكرية بين أمريكا واليمن، ولكن يكفي القول مؤقتا إن «البنتاغون» يكذب عندما يقول تارة، إنه أضعف قدرات اليمن العسكرية بنسبة 90%، وتارة أن الإضعاف لم يتجاوز الثلث، وتارة ثالثة بأنه مفاجأ بصعوبة الاستدلال على الأهداف، فالغارات الأمريكية والبريطانية لم تحقق شيئا يذكر، ليس فقط لأن بنك الأهداف الذي اعتمدت عليه لم يعد قائما على الأرض، وليس فقط لأن الجيش اليمني مفعم بخبرة قتال، هي الأغنى والأثمن، ولكن لأن اليمنيين ليس لديهم قواعد ثابتة، حتى يخيل إليك أنهم يحملون صواريخهم على أكتافهم ويتنقلون بها.
إن القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى هي التي قادت الضربات على اليمن، بأوامر مباشرة من بايدن، لكن الذاكرة الاستراتيجية الأمريكية، مسطحة بالفعل، فخلاياها الحية لم تحتفظ بدروس حروبها الممتدة، وهي ترتكب الآن على حد توصيف قديم لـ«أرنولد توينبي» خطيئة في التاريخ، أما الذاكرة البريطانية، فهي لم تقرأ ما كتبه في مذكراته أهم رئيس وزراء في تاريخها، خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كتب «تشرشل» في مذكراته وهو مراسل صحفي في الحرب البريطانية على اليمن قرب نهاية القرن التاسع عشر، أهم درس استخلصه من هذه الحرب، وكان نصه: «لا تقاتل الجبال والإسلام معا».
لقد استند الجيش المصري في حرب أكتوبر المجيدة إلى باب المندب، وإلى اليمن العزيز، الذي شارك في تحريره وتحديثه، ليفرض على «إسرائيل» أول حصار بحري من بُعد في التاريخ العسكري، طال جميع وحداته البحرية، وأسطوله التجاري، لذلك ليس من قبيل المبالغة القول إننا نعيش الآن ما هو أقرب إلى مقلوب حرب أكتوبر.
إن ما ينبغي أن يقرأ الآن بعقل استراتيجي نقيّ: أن الدفاع عن غزة، هو دفاع عن سيناء، وأن الدفاع عن باب المندب هو دفاع عن قناة السويس.

أترك تعليقاً

التعليقات