أحمد عز الدين

أحمد عز الدين / لا ميديا -
كان ثمة جراحات عميقة في الجغرافيا الاستراتيجية للإقليم تمضي محدثة اختلالا استراتيجيا متعاظما على امتداد عشر سنوات، بينما كانت مفاهيم «الأمن القومي الإسرائيلي» تتوسع وتتغول خارج مفهوم الأمن ذاته، وهي تمضي كالسكين في جسد وتخوم أمة تغفو على سلالم وهم السلام، دون أن يصدر عن النظام الإقليمي العربي ما يمكن أن يمثل رفضا أو ردا أو مراجعة أو تحسبا لمتغيرات عاصفة قادمة في البيئة الإقليمية.
عندما وضعت «إسرائيل» قدمها العسكرية في القرن الإفريقي لم يصدر أحد كلمة أو بيانا ولو كان باهتا، بل كان هناك في دول الخليج من بسط لها مهبطا وساعد في توسيع حذائها العسكري الثقيل، ودمجها في حربه على اليمن.
وعدما وضعت «إسرائيل» محطات للمراقبة العسكرية في جزيرة سقطرى باليمن، واتخذت منها قاعدة بعد أن حملت الإمارات جنودها على متن طائراتها لم يصدر تعليق من أحد، ولم يعترض أحد، بل كان الاعتراض الوحيد من نصيب باكستان التي تبعد عن سقطرى مئات الأميال البحرية على المحيط الهندي.
وعندما وضعت «إسرائيل» أقدامها في قاعدة عسكرية بالمغرب لم يرفع أحد صوتا ولا تعليقا، بينما جاء الصوت الوحيد اعتراضا ورفضا من قبل إسبانيا.
وعندما بدأ مشروع سد النهضة وهو جسم عضوي في عملية الانقلاب الاستراتيجي في الإقليم، كان تدفق المال الخليجي من السعودية والإمارات، أقوى من تدفق ماء النهر، ثم كان تدفق السلاح تاليا عندما ترنح النظام الإثيوبي في ميدان صراعه العرقي، بينما كانت القيادة في ذلك كله معقودة لـ«إسرائيل» وتركيا دون منازع.
لقد تحولت دول الخليج خاصة السعودية والإمارات وقطر، إلى عبء استراتيجي باهظ التكلفة على الإقليم العربي، دولا وأنظمة وشعوبا، توازنا وأمنا، مكانة واستقرارا، حاضرا ومستقبلا، وبينما تعيش كل منها وهم انتزاع القيادة لنفسها، فقد انحدرت وظيفيا إلى مستوى الوكيل الأمني لـ«إسرائيل الكبرى»، التي يجري تخليقها منذ بدأ الفتح الاستراتيجي لضرب العراق، بقدر ما تحولت إلى معاول هدم لصالح مشروع الهيمنة الأمريكية، متصورة بضيق أفق تاريخي نادر، أنها كتبت بذلك شهادة معتمدة بأن تكون من الناجين، وأنها صانت عروشها، وحصّنت وجودها، وبإمكانها أن تنتزع لنفسها قطعة حيّة من كعكة الإقليم، رغم أن ذلك كله محض وهم أو إيهام يدعو إلى الرثاء.
في أعقاب انتهاء عملية إسقاط العراق، ذهب وزير خارجية السعودية إلى الولايات المتحدة ليدعو الإدارة الأمريكية، إلى تنفيذ وعد قطعته على نفسها لحل القضية الفلسطينية حلا عادلا، فور انتهاء عملياتها العسكرية في العراق، ولكنه تلقى ردا جارحا حاضرا وجاهزا، وكان نصه تقريبا هو: «لقد تغيرت موازين القوى، فالولايات المتحدة لا تعتبر أن العراق قد هزم وحده، وإنما كانت الهزيمة من نصيب العرب جميعا».
إن هذه المتغيرات العاصفة في البيئة الإقليمية والدولية، قد أدخلتنا في زمن جديد، «إسرائيل» فيه جديدة تماما، وأمريكا جديدة أيضا، فلا هذه أمريكا التي كانت تضع في عروة قميصها وردة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا هذه «إسرائيل» التي كانت تسعى إلى تسويات سياسية تمنحها مشروعية إقليمية في إطار اتفاق قانوني.
لقد جاءت الاستدارة الأمريكية من أفغانستان، كما برهنت في حينها بمثابة استدارة جرم سماوي مشتعل ليرتطم بكوكب «الشرق الأوسط»، كي يطمس معالمه وتضاريسه، ويمعن في هدمه، ليعيد بناءه جغرافيا وجيواستراتيجيا وسكانيا وعقائديا وفق رؤيته وعلى شاكلته:
أولاً: بموجب أمريكا الجديدة، فإن السلطات السياسية والأنظمة السياسية في «الشرق الأوسط»، لم تعد شأنا وطنيا داخليا، وإنما أصبحت شأنا أمريكيا خالصا، قد يتطلب ضغوطا ثقيلة من الإكراه السياسي، والاقتصادي والمعنوي، أو تدخلا عسكريا مباشرا أيا كانت أدواته أو طبيعته، كما قد يتطلب تفجيرا داخليا بحكم القنابل الموقوتة التي تملأ تربته، والتي لا تحتاج إلى أكثر من مفجر خارجي.
ثانياً: بموجب أمريكا الجديدة، فقد صاغت الولايات المتحدة لنفسها، مشروعية ذاتية جديدة، يمكن أن تصبح قاعدة قابلة للتكرار في «الشرق الأوسط» وهي أن يصبح لأيدي قوة أجنبية، مشروعية تحريك مجموعات إرهابية مستأجرة، لها الحق في أن تزيح نظاما قائما، وأن تؤسس لسلطة بديلة، ترتكز على أعمدة إرهابية وسقوف أجنبية.
ثالثاً: بموجب أمريكا الجديدة، ليس المطلوب هو إسقاط الأنظمة، وإنما إسقاط الدول، وتحويلها إلى قطع من الصلصال يجري تقطيعها وتقسيمها، وتغيير مكوناتها الديموغرافية والعقائدية، وتصفية منظومات القوة بها، أو إخراجها في الحد الأدنى من المعادلات السياسية والاستراتيجية العامة، بمعنى آخر هو إنهاء سلطة الدولة القومية في الشرق الأوسط، وإحلال مرجعيات مصنوعة فوق وطنية، وفوق قومية، لتغيير هويتها وخصوصيتها الوطنية، وبنيتها السكانية.
رابعاً: بموجب أمريكا الجديدة، فإننا نواجه انقلابا استراتيجيا شاملا في أوضاع الإقليم، تتولد عنه أشكال وأنماط جديدة من التهديدات الاستراتيجية، تضغط بقوة على هياكل الأمن القومي حد الترنح، لكن المشكلة أن بعضنا لا يريد أن يربط بين عناصر هذا الانقلاب، ولا يريد بالتالي أن يربط بين مصادر التهديد، وبين المخاطر المستجدة التي تواجه الأمن القومي، دون انتباه إلى أن النسق العام لكل توجه استراتيجي يتحتم أن تكون هناك وحدة بين أنماطه المختلفة.
خامساً: بموجب أمريكا الجديدة، فإن القشرة التي أضيفت إلى الثقافة العسكرية الأمريكية، مع الفارق التكنولوجي، هي ذاتها ثقافة البدو الرُّحل كالمغول، أي إحداث الصدمة والرعب، بالطائرة والصاروخ بدلا عن القوس والسهم، وهي طبيعة غزوات السلب والنهب والاقتناص السريع للمغانم.
سادساً: بموجب الغرب الجديد كله، وليس أمريكا الجديدة وحدها، فإننا أمام دول تتحول سلطاتها بفعل المتغيرات التي أنجبتها الليبرالية الجديدة، إلى احتكارات حاكمة لأقليات سياسية واقتصادية، لا يخرج سلوكها عن عصابات المافيا الدولية، تخوض معركة القوة الجامحة مجردة من أي قيم إنسانية أو قوانين دولية، وبنزعة استعلائية واضحة، والواقع أن الإمبريالية قد انحطت إلى طور استعماري سابق، وأنها تطورت تطورا عكسيا نحو نطفتها الأولى استعمارا سكنيا استيطانيا، لا يقبل إلا حكما أبويا، هدفه تحويل المنطقة من حرية منقوصة إلى عبودية كاملة، ومن إرادة مثلومة إلى إرادة مكسورة.
أما بالنسبة لـ«إسرائيل» القديمة الجديدة، فإنها تحتاج إلى حيز خاص، غير أن الواضح في اختزال شديد، أنها لصقت على رأسها قبعة إمبريالية صغرى على مقاس الإقليم، ليس بالإنابة عن إمبريالية كبرى، ولكن عن نفسها بالدرجة الأولى في منعطف متغير كبير، في أيديولوجية نخبتها المسيطرة، التي غيرت مفهوم الأمن من النسبي إلى المطلق، ومن الحدود الآمنة إلى أمن بلا حدود، ومن بقاء استعمارها في الإقليم من خلال اتفاقيات طوعية، إلى تمددها المفتوح على الأرض بالقوة المسلحة.
لقد أصبحت روح جابوتنسكي هي الشعلة الأكثر توهجا في عيون هذه النخبة، وهي القبلة والصراط المستقيم، وقد انعكس ذلك بوضوح على وضع «الجيش الإسرائيلي» في السلطة وفي المجتمع، فلم يعد الجيش هو بطل الرواية، وصانع الحدث، وحامل الخريطة والحقيبة، وإنما عليه أن يمضي حيث ترى وتريد النخبة، وحيث ترى وتريد أمريكا، ولذلك ثمة تفكك بنيوي داخل الكيان، رغم كل الواجهات البراقة، فضلا عن أن عناصر القوة المحتكرة، لا تزيد عن 1% من المجتمع ومن النخبة الاقتصادية.
إن «إسرائيل» ليست قطعة من نسيج الإقليم، لا تاريخيا ولا أيديولوجيا ولا حضاريا ولا ثقافيا، فهي الشمال في الجنوب، والغرب في الشرق، لكن هذه الإمبريالية الصغرى لم تعد تسعى إلى أن يتم دمجها في الإقليم، بل إلى أن يتم دمج الإقليم فيها، وبينما ظل موقعها في الإقليم محددا بأمرين، القوة العسكرية الباطشة، والقوة الاقتصادية المزدهرة، غير أن السلاح لم يعد مشحونا بذات القوة، ولم يعد الاقتصاد مشحونا بذات الطاقة، وفي المعارك التي امتدت من بدء «طوفان الأقصى» وحتى الآن لم تخض معركة واحدة منفردة بقوتها الذاتية، ورغم كل ما توفر لها سلاحا وعتادا وتخطيطا ومشاركة من جيوش أمريكا وبريطانيا وفرنسا وحلف الأطلنطي، سواء على مستوى الردع أو على مستوى الميدان، لم تستطع أن تحقق نصرا استراتيجيا أو نصرا حاسما، على حد تعبير نتنياهو على المقاومة في غزة وحدها.
إن الأكثر قبحا في ما يمكن أن يوجه إلى جمهور عربي كبير، يثب على قدميه ليرى ما تراكم من حوله هو «خطاب التيئيس» أو «خطاب الانكسار» والذي لن تخرج مفرداته عن أن المقاومة خطيئة، وأن الاستسلام حكمة، وأن الرضوخ عقلانية، وأن الانصياع لما تريده أمريكا و«إسرائيل» هو طوق النجاة للأمم والشعوب.
إن قواعد التفكير القديمة لم تعد صالحة لمواجهة تهديدات حالة وبازغة، كما لم تعد أساليب السياسة القديمة قادرة على احتواء متفجرات تحت ركامها، ذلك شأن دبلوماسية الملاينة، واللجوء إلى المفهوم الدفاعي الضيق، ومن المؤكد أن محاولة تخفيض التناقضات مع هذا الخارج الجديد افتعالا، لن تكون إلا على حساب تصعيد التناقضات في الداخل ارتجالا.
إن الحرب لم تضع أوزارها بعد، حتى مع اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، فقد انتهت مرحلة تستدعي التوقف، سواء مع إدارة أمريكية جديدة، أو مع حصاد مواجهات تواصلت لشهور، فهناك ما يستدعي تجميد المشهد المتحرك الراهن، سواء في اليمن أو لدى حزب الله أو العراق، واستكمال ما هو مطلوب لإحكام السيطرة على لبنان وسوريا وبينهما شرق المتوسط، بينما يتم شحن آلة الحرب لصالح استراتيجية أمريكية ممتدة بخرائط جديدة، وذخائر صالحة.

أترك تعليقاً

التعليقات