نحو «خيار شمشون»
 

أحمد عز الدين

أحمد عز الدين / لا ميديا -
لم يعد الأمر يحتاج إلى مقدمات:
أولاً: لا عاصم لمصر اليوم سوى أن تستكمل استدارتها الاستراتيجية كاملة غير منقوصة، ولا سبيل إلى ذلك سوى أن تستعيد ذاكرتها الاستراتيجية، وفي قلبها ذاكرتها العسكرية، فهذا أطول وأقدم شعب محارب في التاريخ، أسس مدرسته العسكرية خلال النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد، وهي مدرسة ابتدعت علم الاستراتيجية وعلم التكتيك، وأسس التعبئة، وتنظيم الجيوش، وظلت علومها مادة صالحة للتعلم والتطبيق في الحروب الحديثة.
أقول ذلك -أولاً- لأن الذاكرة الاستراتيجية المصرية ماتزال حيّة، وماتزال دروس معاركها التاريخية الممتدة قابلة وقادرة على أن تجبر كثيرا من الكسور، وأن أسوأ ما يمكن أن تتعرض له هذه الذاكرة هو وضع غشاوة معتمة عليها.
وأقول ذلك -ثانياً- لأن التهديدات الاستراتيجية الحالّة والبازغة والمتوقعة، التي تحيط بمصر لا تتعلق فقط بالضغط المنظم على كافة محاورها الاستراتيجية فحسب، وإنما بإحداث تغيير شامل مضاد في البيئة الاستراتيجية الواسعة التي تحيط بها، إذ لا شيء مما يحيط بمصر في الإقليم من أوله إلى آخره، إلا ويشكل طريق اقتراب مباشر أو غير مباشر منها، فالاقتراب المباشر من دمشق على سبيل المثال، هو اقتراب غير مباشر من مصر، وكسر مفصلي في أحد أهم خطوط الدفاع عن سوريا وعن مصر سواء بسواء.
وأقول ذلك -ثالثاً- لأنه ليس بمقدور الاستراتيجية الأمريكية أن تزرع أعلامها ثابتة فوق إحداثيات الإقليم دون أن تعبر في جسد مصر، فمصر هي الممر الفاصل الأخير لمن يريد ألا يضع التكتيك في تناقض مع الاستراتيجية، فيفسد التكتيك والاستراتيجية معا، ومصر هي قاعدة الوثوب الحتمية لمن يريد أن يكمل الانقلاب الاستراتيجي الواسع، بدوائره المتصلة في عموم الإقليم، وأي كلام غير ذلك هو امتهان للذاكرة الاستراتيجية والعسكرية المصرية، وهو تخفيض متعمد لدرجة الإحساس الوطني بالخطر.
ثانياً: فيما يتعلق بأنباء نقل مليون فلسطيني من غزة إلى ليبيا -وللإشارة فقط- فإن هناك احتمالين لا ثالث لهما.
1. أن أنباء عملية النقل صحيحة، وأن هناك خطة ما موضوعة ومكتملة لتنفيذها، وأن نفي عملية النقل مؤخرا من قبل السفارة الأمريكية في طرابلس، ليس إلا إرجاء مؤقتا لتهيئة الأوضاع المضطربة في شمال ليبيا، وهو أمر محل تعاون أمريكي تركي ينسحب بدوره على خطة النقل نفسها، وبامتدادات واضحة إذا أحكمت تركيا سيطرتها على الغرب الليبي، وانتزعت ميناء طرابلس ومطار معتيقة.
غير أنه في هذه الحالة ووفقا لحسابات النقل المعقدة لمليون شخص، فإن بوابة الخروج لا يمكن أن تكون إلا سيناء، فالنقل جوا من غزة ليس متاحا، سواء بواقع حشر الفلسطينيين في أقصى الجنوب، ووجود أقرب مطار «إسرائيلي» في أقصى الشمال، وبواقع أن النقل جوا يحتاج إلى أكثر من ألف وخمسمائة رحلة جوية، كما أن النقل بحرا تنطبق عليه الأسباب نفسها، المطار الأقرب في هذه الحالة هو مطار العريش، غير أن حسابات الزمن تعني بقاءهم في سيناء لفترات طويلة، كما تعني تسرب أعداد منهم إلى مسارات أخرى، أما حل النقل البري من رفح إلى بني غازي فهو يحتاج إلى ما يزيد على 20 ألف أتوبيس، مع بقاء ملاحظة الوقت الطويل والتسرب الطبيعي.
2. إن خطة نقل المليون فلسطيني من غزة إلى ليبيا نفسها ليست سوى خطة وهمية، هدفها خلق مبررات زائفة لدفعهم إلى سيناء على أنه تهجير مؤقت ووجود مؤقت أيضا، وفي كلتا الحالتين فإن الخطر داهم ولا أظنه ببعيد.
ثالثاً: يمكن أن يضاف إلى ما سبق وفي سياقه المباشر أمران هامان:
1. أن عملية «عربات جدعون» تتقدم بقوة دفع هائلة في غزة، فقد بلغ حجم القوات «الإسرائيلية» التي تم دفعها إلى داخل القطاع 16 لواء، وهو ما يكاد أن يشكل مجموع القوات البرية «الإسرائيلية» كاملة مدعومة بالدبابات، وهذه الأعداد الضخمة من القوات بطاقتها النيرانية أكبر بكثير من المهمة المباشرة الخاصة بالقطاع، والذي تكاد مساحته أن تتناسب مع مساحة عاصمة عربية واحدة هي بغداد.
2. أن المعلومات المؤكدة عن الشركتين الأمريكيتين اللتين دخلتا إلى القطاع تحت عنوان توزيع بعض الوجبات على الفلسطينيين الذين سيقبلون الانتقال إلى أقصى الجنوب، كلتاهما تتشكل من قوات خاصة أمريكية، إحداهما تابعة مباشرة لـ»دي. أي. إيه» أي المخابرات العسكرية الأمريكية، والثانية تابعة لـ»بلاك ووتر» وقوامها من ضباط وجنود أمريكيين يتم استئجارهم للعمليات العسكرية الخاصة، وقد كان دورهم واضحا تحت علم الإمارات في حربها ضد اليمن، لذلك يبدو أن ثمة مهمة خاصة موكلة إليهما، ليس لتوزيع المساعدات وإنما لتوزيع النيران.
رابعاً: لا تستحق هذه الأصوات المنكرة بما فيها أصوات اللوبي السعودي والإماراتي في مصر، والتي رفعت أعلاما فاضحة منتشية بالنجاح والنصر، في زيارة ترامب للخليج، بمن في ذلك من حرضوا مصر على أن تتكيّف مع نتائج الزيارة، حتى لا ينكسر عمود الخيمة العربية رغم أن الخيمة نفسها قد ذرتها رياح الخليج ورمتها في صحراء موحشة، وبما في ذلك من رأوا في مرآة نتائج الزيارة وجها لفشل مصري، أو رأوا فيها إفاقة سعودية من وهم التدين ووهم القومية العربية، وحتى أولئك الذين لم يجدوا مبررا سوى أن الخوف من إيران هو محرك السعودية نحو «إسرائيل»، وكأن السعودية لم تُفشل سعيا مبكرا لمصر لتكوين قوة دفاع عربية مشتركة.
1. في الاتفاقية الخاصة بصفقات السلاح الأمريكي للسعودية لم يتوقف «الإسرائيليون» إلا أمام مؤشر واحد فيها، هو أن إجمالي الصفقة 142 مليار دولار، بينما مجموع قائمة الأسلحة يساوي 132مليار دولار، وبذلك فإن هناك 10 مليارات دولار إضافية مجهولة الاستحقاق، ظل الفضول «الإسرائيلي» يريد أن يعرف إلى أي يد ستذهب.
2. إن هناك صفقات سلاح سابقة اشترتها السعودية، ثم تحولت الأسلحة نفسها من يدها إلى يد «إسرائيل»، وأوضح مثال على ذلك منظومة الدفاع الجوي الأمريكية «ثاد» فقد سُحبت القواذف من قواعدها في السعودية التي تُركت فارغة، وتم دمج الصواريخ في نظام الدفاع الجوي «الإسرائيلي» مع تصاعد قوة وفاعلية الصواريخ اليمنية، وحتى بالنسبة لطائرات الـ(إف 15) الموجودة لدى سلاح الجو السعودي فهناك ما تسرب من مخطط أمريكي سابق لتحقيق المفاجأة في ضرب إيران، اعتمادا على هذه الطائرات السعودية، على أن يتولى قيادتها طيارون أمريكيون، مع مناورة تُخفي مكان الانطلاق الحقيقي.
3. إن تدقيق هذه الصفقات يبدأ من التزام وتعهد سعودي، بأن هذه الطائرات لن توجه إلى «إسرائيل»، فـ»إسرائيل» لا يمكن أن تكون هدفا، ولا جزءا من هدف سعودي، كما أنها لن تتحرك من قواعدها إلا بموافقة أمريكية.
4. إن النسخة التي ستسلم إلى السعودية، إذا صحت رواية موافقة أمريكا على تسليمها طائرات (إف 35)، هي النسخة الإيطالية، وهي المستوى الأدنى من طائرات (إف 35)، فضلا عن أنها لن تتمتع بقدرات هجومية حقيقية، وإنما دفاعية بحتة (وهو ما رفضته الإمارات).
5. أما بالنسبة لطائرات (إف 15 إي إكس)، وهي جزء من الصفقة فيكفي أن سموترتش وزير المالية «الإسرائيلي» رفض التوقيع على صفقة من نفس الطراز لأنها من الجيل الرابع، وقد أصبح متقادما حتى أمام الطائرات الصينية التي تنتمي إلى نفس الجيل.
6. هناك ما يؤكد أن البنتاجون يمكنه إيقاف استخدام طائرات الـ(إف 35) من بُعد، لكن ذلك لا يتحقق في طائرات الـ(إف 16)، إذا تخلّت عن استخدام الجي بي إس، وإن كان ذلك يقلل من قدراتها بنسبة تتجاوز الثلث.
7. ستظل العقيدة «الإسرائيلية» هي التي تتحكم في مستويات التسليح الخاصة بالدول العربية من جانب التسليح الغربي عموما والأمريكي خاصة، وتوجه مصر إلى صفقات تسليح كبيرة مع الصين، هو تعبير عملي عن قناعة استراتيجية مصرية كاملة بهذه الحقيقة.
8. في مسألة توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين الولايات المتحدة والسعودية، أو اتفاقية حماية فإن الولايات المتحدة قبلت بما لم تقبل به «إسرائيل» فقد عرضت السعودية على «إسرائيل» قبل سنوات اتفاقية مماثلة بين الجانبين لكن الرفض كان من جانب «إسرائيل» وقد صيغت حيثيات الرفض في جامعة بار إيلان وتحديدا في مركز دراسات بيجن -السادات، وكان أهم هذه الحيثيات هو أن السعودية لا تلتزم باتفاقياتها، فقد سبق أن خانت اتفاقية مماثلة مع العراق.
خامساً: ما هي الثمرة الحقيقية التي أنضجتها زيارة ترامب، وقد أصبح لها ظل داكن وشبه ظل فوق خرائط الإقليم من أولها إلى آخرها.
إن هناك ما يستحق مع نتائجه وتفاعلاته الإحصاء، لكنه في مجمله مؤقت لا يخرج عن دفع اختلال التوازنات الاستراتيجية في الإقليم إلى مستوى غير مسبوق، فقد ضخ الخليج دما طازجا وفيرا في شرايين الهيمنة أيقظ حواسها، وأدفأ أطماعها، وجدد طاقتها.
إن الاستراتيجية الأمريكية لن تتوقف، لقد تلكأت في البحر الأحمر، ريثما تقتات لحم الخليج، وقد أطعمها الخليج ذاته وزاده وكرامته وأمنه، مع ما اقتطعه من قلب الأمن القومي، وانحنى منكسرا تحت أقدامها، وهكذا تعود إلى مسارها الأصلي مملوءة بطاقة وقوة دفع جديدة تبدأ معها المناشير عملها، لا في لحم الإقليم وإنما في عظامه.

أترك تعليقاً

التعليقات