العدوان على غزة..حرب الولايات المتحدة قبل أن تكون حرب «إسرائيل»
- أحمد عز الدين الجمعة , 9 أغـسـطـس , 2024 الساعة 7:13:53 PM
- 0 تعليقات
أحمد عز الدين / لا ميديا -
لا وقت للتعليق على تلك الأصوات المستأجرة من وكلاء «إسرائيل» في المنطقة، والتي تؤدي وظيفة واحدة، هي زم المقاومة، وتحقير بنادقها ووجوها، ورجمها بالأحجار، خاصة أولئك الذين هزوا أعطافهم طرباً لعمليات اغتيال إرهابية، مما يعني أنهم أصبحوا جزءاً من طبول الحرب في مؤخرة الجيش «الإسرائيلي». الحقيقة أن أدق توصيف لعملية اغتيال «هنية» هو ما ورد في البيان الروسي، فقد اعتبرها «اغتيالا سياسيا»؛ لأنه إذا كانت كافة عمليات الاغتيال مدانة قيمياً وقانونياً، فإن أكثرها جبناً وانحطاطاً ومدعاة للإدانة هي عمليات الاغتيال السياسي، أياً كان هدفها، وأياً كانت مبرراتها وأدواتها، ولذلك فإن هؤلاء الحمقى الذين يقيمون الأفراح لجريمة اغتيال سياسية، إنما يروجون لمشروعية استخدام سلاح جبان، يمكن أن يوجه إليهم في الظلام.
لقد اختار العدو الرأس الذي يتفاوض معه، وهو أمر لا يعني اغتيال المفاوض، ولا اغتيال عملية التفاوض، بقدر ما يعني اغتيال مائدة التفاوض، بكل أدوار الذين يتحلقون من حولها.
أحسب أنني قلت قبل ذلك إن الجيش «الإسرائيلي» الذي حشر نفسه بين ضفتي حرب استنزاف ممتدة، لا يستطيع معها الرجوع إلى الخلف، ولا التقدم إلى الأمام، لا بديل أمامه؛ إما أن يعمل على دمج جسم الجيش الأمريكي عضوياً وعلانية في حربه، وإما أن يلجأ إلى نمط «المعركة بين الحروب»، وهو نمط يشمل كافة أشكال التصعيد العسكري والغارات الجوية وأعمال المخابرات والاغتيالات، مما يعني إشغال مساحة منتقاة بين الحروب منخفضة الشدة أو متوسطة الشدة، وبين الحرب الكبرى التي يمكن أن تقود إليها. لكنه اختار توسيع نمط المعركة بين الحروب وتعميق خطوطها حتى جنوب العاصمة اللبنانية، وشمال العاصمة الإيرانية، وتخوم العاصمة السورية، على أساس أن ذلك من شأنه أن يضخ مزيداً من الأوكسجين في رئته الداخلية ورئة جيشه الذي يعاني من إجهاد شديد ومن تفشٍّ لأمراض نفسية، فضلاً عن نقص في مرتباته القتالية، وبالتالي وضع الإقليم كله فوق منحدر صعب، كان حله الوحيد عند وزير الثقافة والتراث «الإسرائيلي» هو وقف اتفاقيات السلام الثلاث، واغتيال كل زعماء المنطقة، أي إغراق الإقليم كله في الفوضى.
لقد أصبح واضحاً أن كافة منصات الإعلام تقريباً لم تعد تجد تفسيراً جامعاً للمتغيرات العاصفة في الإقليم، إلا من خلال شخص نتنياهو الذي يتم تصويره على أنه مؤلف الدراما الدموية وبطلها ومخرجها، والقفل والمفتاح في آن واحد، إضافة إلى دور البيت الأبيض وتحديدا الرئيس بايدن، قبل أن يضاف إليهما الكونغرس بعد مشهد نتنياهو في ساحته، وفيما أحسب أن في ذلك كله كثيرا من تكنولوجيا صناعة الوهم، لأن المؤلف والمخرج والقفل والمفتاح موجودون في منطقة معتمة من عمق المشهد.
إن ما يعنيني في هذا الحيز أن الأعراض المرضية للسيد بايدن لم تكن سراً في دائرة واسعة داخل البيت الأبيض وداخل أركان الدولة الأمريكية، بما في ذلك الكونغرس، وعلى امتداد شهور طويلة، حد أن الصحف الرئيسية الأمريكية اتهمت هؤلاء جميعا مؤخرا بأن سكوتهم يمثل «جريمة صمت». ومع اعتبار أن القول بأن إشعاع غزة قد ساهم في ذلك سيتهم بالمبالغة؛ لكن الثابت أن الأمريكيين أدخلوا معظم رؤسائهم إلى مصحات نفسية.
إن أول إشارة علنية بشأن الحالة الصحية لبايدن صدرت عن رئيس لجنة المخابرات في الكونغرس، وهو أمر عزز ظهور الكونغرس في الواجهة، خاصة وأن الكونغرس -وليس الإدارة الأمريكية- هو الذي أقر مشروع قانون ملزم بإقامة نظام دفاعي صاروخي في الشرق الأوسط، يقوم على دمج فضاء الدفاع الخاص بالدول العربية وفي مقدمتها الخليج، في فضاء الدفاع «الإسرائيلي». وقد كان المدهش في مشروع القانون أن الكونغرس الذي يمثل السلطة التشريعية في أمريكا، قد اعتبر أن فضاء وأرض دول عديدة في الشرق الأوسط مجرد جزء من الأرض والفضاء الأمريكي الذي يخضع لسلطته التشريعية. لكن الحقيقة أن الكونغرس لم يكن غير الواجهة، أما مشروع القانون فقد كان شأناً خالصاً للبنتاغون، الذي توارى في عمق المشهد، رغم أن البنتاغون وليس الرئيس الأمريكي أو الخارجية الأمريكية، هو الذي أصدر في 20 آذار/ مارس 2021 تعليمات إلى جميع حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالابتعاد تماما عن روسيا ومقدراتها وكافة أنواع أسلحتها.
أستطيع الجزم مع كل السوابق التاريخية بأن الكونغرس لا يستطيع أن يرد طلباً حاسماً للبنتاغون. وحتى إذا حدث ذلك فإن البنتاغون قادر على أن يفرض إرادته. في إحدى هذه السوابق طلب البنتاغون من الكونغرس إصدار قانون بشن حرب على كوبا، لكن الكونغرس رفض إصدار القانون، فقد كانت قياداته وكبار أعضائه يملكون استثمارات بالمليارات تمتد في سلاسل من الفنادق وعلب الليل وصالات القمار في كوبا. وتصرف البنتاغون بأسلوبه المعتاد، فقد أضرم النار في سفينة حربية أمريكية قرب الشاطئ الكوبي، واتهم كوبا بشن عدوان على إحدى وحداته البحرية، ولم يكن أمام الكونغرس إلا أن يقر القانون ويصدره على الفور.
غير أن بصمة إحراق سفينة أمريكية لتبرير شن عدوان ظلت متكررة في كل حروب أمريكا، وهي ذاتها البصمة التي تم استخدامها مؤخرا في واقعة مجدل شمس، تبريرا لضرب جنوب العاصمة اللبنانية، واغتيال السيد فؤاد شكر.
فيما أحسب فإن نتنياهو ليس البطل ولا هو القفل والمفتاح، وبقاؤه أو عدمه ليس معقودا على وزيرين يمينيين بالدرجة الأولى، وإنما معقود على تمثله الكامل لمفردات الاستراتيجية الأمريكية كما وضعها البنتاغون، وكل مناوراته وألاعيبه ناجحة لأنها تتحرك فوق هذا السطح وفي خدمته. وهذا ليس حاله وحده بقاء أو رحيلا، وإنما حال عدد من أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها في الإقليم.
لك أن تلاحظ أن أكثر المقربين من الولايات المتحدة في «إسرائيل» من كبار الجنرالات والسياسيين، وفي مقدمتهم غانتس وإيزنكوت، اللذان خرجا من مجلس الحرب، لم يعد أحد في أمريكا يعيرهم انتباهاً، بعد أن برهنوا على أن خوفهم على الجيش «الإسرائيلي» أكبر من خوفهم على نجاح الاستراتيجية الأمريكية. ولك أن تلاحظ أن أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، نفسه، قد سبق إحالته إلى التقاعد منذ سنوات ثم تم اختياره لمنصب وزير الدفاع، وخلال السنوات بين تقاعده فريقا وعودته وزيرا، مر للعمل في أكبر شركتين للصناعات العسكرية في أمريكا، وهناك من يؤكد أنهما هما اللتان دفعتاه إلى موقعه على رأس الجيش. ولك أن تلاحظ أن التطبيع العسكري مع «إسرائيل» ودول في الإقليم والذي يقوده البنتاغون قد تأكد أنه هو جوهر التطبيع، وأن التطبيع السياسي أو الاقتصادي كلاهما مجرد سلالم جانبية للوصول إليه. ولك أن تلاحظ أنه في الوقت الذي روجت المصادر الأمريكية لخطاب خشن من جانب بايدن إلى نتنياهو من أجل وقف إطلاق النار، كان وزير الدفاع الأمريكي يتحدث عن إعادة انتشار القوات الأمريكية في الإقليم، في الوقت الذي يتم فيه نقل قوات أمريكية تتجاوز 20 ألف جندي مع سرب من الطائرات المقاتلة ووحدات قتال بحرية إضافية. ولك أن تلاحظ أن الجنرال كوريلا، قائد المنطقة الوسطى الأمريكية، هو الذي يباشر هذه المهام، وهو الذي سبق في نيسان/ أبريل الماضي في مواجهة الهجوم الإيراني أن أنشأ دفاعا جويا عميقا ومتعدد الطبقات يمتد من العراق إلى الأردن إلى أجزاء من سورية، مع توسيع التنسيق ليشمل القوات البريطانية في قبرص والفرنسية في الأردن، ومع ربط كافة الشبكات بقاعدة الإنذار المبكر الأمريكية في النقب (الموقع 512)... باختصار فإن كوريلا يلعب دورا في هذه الحرب أكبر مما يلعبه رئيس الأركان «الإسرائيلي» نفسه.
في عمق المشهد الذي يواجهنا الآن يصطف حزب الحرب في أمريكا، والذي عبر أحد وجوهه مسبقا عن هدفه بالقول: «إن الحرب هي صحة الدولة». أما واجهة هذه الحرب فهي البنتاغون. وأما العقل الذي يتولى بشكل صارم دفع مفردات الاستراتيجية في الميدان فهو «دي آي إيه»، أي المخابرات العسكرية الأمريكية.
لذلك ليس هناك ضوء أخضر أمريكي، وإنما هناك توجه أمريكي، وقرار أمريكي، وفعل أمريكي، في إطار استراتيجية أمريكية.
إننا أمام تحولات ذات طابع استراتيجي عميق، لها وقع التاريخ وإيقاعه العنيف، في الطريق إلى لحظة كيفية جديدة بكل مستوى وكل بُعد، لكنها باختصار حرب الولايات المتحدة قبل أن تكون حرب «إسرائيل»، وهدفها هو الاستحواذ بالقوة المسلحة على كعكة الإقليم، والحرب على غزة وما جاورها وتلاها ليس إلا مقدمة دامية لها.
كاتب مصري
المصدر أحمد عز الدين
زيارة جميع مقالات: أحمد عز الدين