أحمد عز الدين

أحمد عز الدين / لا ميديا -
هي حرب أمريكية خالصة، تقودها أمة تناضل ضد الانقسام والاحتراب الداخلي، وضد التآكل، وهي جزء من الفاصل الأخير في الاستراتيجية الأمريكية الشاملة بمراحلها الممتدة، والتي بدأت بالفتح الاستراتيجي لضرب العراق، مستهدفة إحداث انقلاب استراتيجي كامل في أوضاع الإقليم، وهي حرب الغرب الذي يصر على أن يرى «إسرائيل» بعنصرية فجة، على أنها الشمال في الجنوب، والغرب في الشرق، بالمعنى الحضاري والتاريخي، بينما تتفتح حواسه الاستعمارية القديمة بجموح طاغٍ إلى مستعمراته في ظل أزمة اقتصادية هيكلية، صنعتها الليبرالية الجديدة، ولم يعد معها من مخرج سوى الاستحواذ والهيمنة، بكل أدوات الإكراه والقتل والإبادة.
لكن بعضنا مازال يطل عليها من زوايا ضيقة ومعتمة، سواء في بيئة «الشرق الأوسط»، أو فوق مسرح العمليات الدامي في فلسطين.
أولاً: إن البعض يكرر بإصرار زاعق، ما تكرره أركان الإدارة الأمريكية بببغاوية رتيبة، من أن محاولاتها للضغط على نتنياهو للقبول بوقف لإطلاق النار، لا تلقى من جانبه سوى رفض صارم، وإصرار قاطع.
إن ادعاء أمريكا أن نتنياهو يملك فضيلة الرفض، هو ادعاء كاذب، فوق أن أمريكا ليست وسيطا، وإن ارتدت قناع الوسيط، فالقرار «الإسرائيلي» كليا وجزئيا، سياسيا وعسكريا، واقع تماما الآن بين أصابعها كقطعة من الصلصال، فنتنياهو المتصدع المترنح داخل «إسرائيل»، ليس مناحيم بيجن الصهيوني المتمرس العنيد، ومع ذلك فحين انتهت العملية العسكرية «الإسرائيلية» في لبنان (عملية الليطاني) عام 1978 وماطلت «إسرائيل» في الانسحاب، طلب الرئيس الأمريكي كارتر من بيجن أن يسحب القوات «الإسرائيلية» من الجنوب، لكن بيجن ألقى في وجه الرئيس الأمريكي، بتعبير لم يقدر له البقاء طويلا في «إسرائيل»، وهو «لسنا دولة موز»، ومع استمرار إصرار كارتر على إتمام الانسحاب، لم يجد بيجن سبيلا، سوى أن يؤكد له أن القوات «الإسرائيلية»، قد أكملت انسحابها بالفعل.
وحين وضعت أمام كارتر صور الأقمار الصناعية تأكد أن بيجن، لم يجد بديلا عن الكذب لإبقاء القوات «الإسرائيلية» في مواقعها، وفي اليوم نفسه كان الرجل الثاني في السفارة الأمريكية في «تل أبيب» فيتس يطرق باب بيت بيجن، وهو يحمل رسالة كتابية من الرئيس الأمريكي، وكان منطوقها يقول: «إذا لم يتم سحب القوات الإسرائيلية من لبنان خلال 24 ساعة فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستقطع كافة مساعداتها إلى إسرائيل»، ويروي فيتس في نص درامي ما حدث بعد أن قام بوضع الرسالة في يد بيجن: «ما إن قرأ بيجن الرسالة ببطء شديد، حتى شحب لونه، ثم توجه إلى المنضدة الجانبية، وسكب الويسكي في كأسين كبيرين، وأخذ جرعة كبيرة، ثم قال، لقد فزت يا سيد فيتس».
ثانياً: إن البعض يحاول أن يدفع إلى الشطآن العربية أمواج تفاؤل باهت، استنادا على بعض المتغيرات في أحاديث بعض المسؤولين الأمريكيين، مفترضا أنها تمثل ترجمة لتغيير جوهري في الموقف الأمريكي، إما على أساس أن الوصول إلى صفقة هدنة مؤقتة أو موقوتة، من شأنه أن يقود إلى تسوية كاملة، وإما لأن المهلة التي أعطتها أمريكا لـ»إسرائيل» قد تبددت، وإما لأن علاقة أمريكا بحلفائها في المنطقة قد تأثرت، وإما لأن تأثير الرأي العام الذي أصبح يشكل عاصفة قوية قد اشتدت.
إن منتوج ذلك المباشر لن يكون غير توزيع قناعة زائفة على جمهور عريض، بأن الحرب قد أوشكت أن تضع أوزارها، وأن ثمرة التسوية الكاملة، قد أصبحت دانية، وأن الولايات المتحدة بالتالي ليس أمامها إلا أحد خيارين، إما أن تحيل استراتيجيتها العسكرية في «الشرق الأوسط» إلى التقاعد، وإما أن تضعها لسنوات قادمة في (النفتالين) وكلا الأمرين، لا هو في دائرة الواقع، ولا في دائرة الممكن.
يبقى ذلك التعويل الكبير على القوة الدافعة، التي يمكن أن يؤثر بها الرأي العام ومظاهرته الحاشدة، لفرض تغيير جوهري على الموقف الأمريكي و»الإسرائيلي»، ودون شك فإن تعبير هذا الرأي العام عن نفسه بهذا القدر من الاتساع والقوة، رفضا وغضبا، يثقل موازين تعرية الحرب من أغلفتها العنصرية وغير الإنسانية، ويمثل إدانة غير مسبوقة لها، لكنه لا يؤثر على نحو حاسم في درجة اندفاعها، فهو بالنسبة لأمريكا و»إسرائيل»، لا يمثل إشارة مرور حمراء فوق مسار عسكري، ذي طبيعة استراتيجية، فضلا عن أن نخبة القوة، سواء في أمريكا أو «إسرائيل» لا تنظر إليه بقدر من الاحترام، وإنما بقدر من الاستخفاف.
شيء من هذا يمكن استخلاصه من سلوك «إسرائيل» نفسها، فقبيل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وفي اجتماع ترأسه بن جوريون بنفسه، أطل أحد الجنرالات بسؤال، بدا في غير مكانه قائلا: أليس مطلوبا أن نفكر كيف سنواجه الرأي العام العالمي، قبل أن نبدأ الحرب؟ ورد بن جوريون كأنه يلقي بالسؤال خارج الغرفة: «عندما تنتهي الحرب ونحقق أهدافنا، سوف نجلس لنفكر كيف نواجه هذا الرأي العام».
إن مصدر القوة الحقيقي في التأثير على موقف الولايات المتحدة، لا ينبع إلا من جبهتين، منتوج العمليات العسكرية القائمة فوق أرض فلسطين، والتفاعلات الإقليمية التي تحيط بها، إذا امتلكت الجرأة والقدرة على كسر نظرية الردع الأمريكية، التي أصبحت تظلل سماء الإقليم كسحابة سوداء.
ثالثاً: إن هناك ارتباطا وثيقا ومتلازما، بين حرب تقودها الولايات المتحدة فعليا، باستخدام القوة المسلحة، وبفرض نظرية للردع في فضاء الإقليم، وبين عملية «ترانسفير» لدفع الفلسطينيين إلى الخروج من غزة، بعد تدمير كافة أسباب الحياة فيها، وهو ما يتم فعليا على قدم وساق، ولذلك فإن أي رؤية تقوم على قاعدة فك الارتباط بين الأمرين، دون اعتبارهما مركّبا واحدا، هي رؤية عاجزة وقاصرة، فالتهجير أو «الترانسفير» هو النواة الصلبة الأولى لهذه الحرب، فضلا عن أن قماشها أوسع بكثير من بدن غزة وحدودها وسكانها.
لقد رفض العراقيون ابتلاع هذه النواة، قبل التصعيد العسكري الأمريكي ضد العراق، ثم الحرب الشاملة عليه، فقد تقدم الأمريكيون بصفقة تتضمن إسقاط العقوبات كاملة على العراق، والتعامل معه كدولة طبيعية، مقابل قبول العراق بترحيل الكتلة السكانية الفلسطينية من لبنان، إلى شمال العراق، باعتبارها تمثل كتلة الخطر في لبنان، فقد كان تقدير المخابرات العسكرية «الإسرائيلية» وقتها أن الأولوية تقتضي ترحيل الفلسطينيين قبل البدء في نزع سلاح حزب الله، وكان التصور الأمريكي يرى أن هناك إغواء في الصفقة بما يمكن أن تقدمه، بمنطق التوازنات المذهبية أو الديموغرافية، بينما كانت الخطة في جوهرها تسعى مبكرا إلى إنشاء كيان جديد، متعدد الديانات والقوميات، يتيح دمج كتلة كبيرة من التركمان في المنطقة، لتخفيف العبء عن تركيا، ثم يتسع بعد ذلك لسبعين ألف كردي يهودي، يجري نقلهم من «إسرائيل» إليه، ومع تكرار الرفض العراقي، بدأ التصعيد العسكري ضد العراق، وصولا إلى الحرب عليه.
رابعاً: في مواجهة أولئك الذين يتوهمون أن بمقدورهم أن يصطادوا أسماك السلام طازجة من بركة الدم الفلسطينية، ينبغي التأكيد على نتيجة رئيسية هي: إن مشروع السلام في «الشرق الأوسط» قد سقط استراتيجيا.

أترك تعليقاً

التعليقات