محاولة لإمساك نور الشمس
 

فهد شاكر أبو راس

فهد شاكر أبو راس / لا ميديا -
ترك لنا تراثاً هائلاً من الخطابات والمواقف والأفكار، ترك لنا مقولة: «إذا كان كُلّ العالم معكم، والله ضدكم، فلن تنتصروا، وإذا كان كُلّ العالم ضدكم، والله معكم، فلن يهزمكم أحد».
مرة أُخرى، أجلس أمام هذه الصفحة البيضاء أتحدى عذاباتي القديمة، محاولاً أن أسكب في كلمات ما يعتمل في صدري مِن إجلال وحب ووفاء لسماحة العشق شهيد الإسلام والإنسانية السيد حسن نصر الله؛ لكني سرعان ما أقف عاجزاً، يتلعثم القلم وتخور القوى، فأجدني أمحو ما كتبت بعد سطور قليلة، وكأنني أحاول أن أمسك بعظمة جبل بحفنة رمل، أَو أن أغرف محيطاً بكفّي.
إنها معاناة متجددة كلما هممت بالكتابة عن هذه الشخصية الفذة التي تركت في نفسي وفي نفوس الملايين حول العالم أعمق الآثار؛ فكيف لي أن أبدأ؟! ومن أية زاوية أتناول سيرة رجل أصبح ليس مُجَرّد قائد سياسي أَو عسكري، بل تجسيداً حيّاً لفكرة المقاومة، ورمزاً للإيمان والثبات، ومدرسة في الأخلاق والقيادة والتضحية؟!
إن مُجَرّد التفكير في الشروع بذلك يجعلني أشعر بصغر حجم مفرداتي، وضعف بلاغتي، أمام هذه العظمة التي شاهدناها تتجلى في أحلك الظروف.
لطالما راودتني فكرة كتابة مقال جامع يليق بسماحته. وهنا بالضبط يكمن سبب عجزي عن الكتابة؛ فكيف يمكن لي اختصار مسيرة ثلاثين عاماً من القيادة الحكيمة، التي حوّلت المقاومة من مجموعة من المقاتلين إلى جيش شعبي عظيم أصبح أنموذجاً يُحتذى في العالم كله؟! كيف يمكن وصف لحظة تحرير الجنوب دون أن تعبر الكلمات عن فرحة الملايين وهم يشاهدون آخر جندي محتلّ يغادر أرضهم مدحوراً بالله وبفضل دماء الشهداء وتضحيات المقاومين؟!
وكيف لي أن أنقل مشاعر الفخر والعزة التي غمرت كُلّ لبناني وعربي عند تحقيق النصر الإلهي في تموز 2006، عندما صمدت المقاومة بقيادة السيد الشهيد حسن نصر الله أمام آلة الحرب «الإسرائيلية» المدمّرة، وكسرت أُسطورة «الجيش الذي لا يُقهَر»؟! لقد كانت تلك الأيّام درساً في الإرادَة والتخطيط والإيمان؛ كان سماحته خلالها القائد الحكيم والمخطّط الاستراتيجي والمشعل لروح الأمل في النفوس.
خُطَبه كانت كالبلسم على جراح الناس، وكالصاعقة على رؤوس الأعداء. يخرج من بين الأنقاض والدمار ليعلن للعالم أننا أُمَّة لا تُقهَر، وأن إرادتنا أقوى من كُلّ ترسانتهم.
عظمة سماحته لم تكن فقط في قيادته للمعارك وتحقيق الانتصارات، بل كانت أَيضاً في إنسانيته العميقة، في تواضعه الجمّ، في قربه من الناس، في فهمه لمعاناتهم، في مشاركته أفراحهم وأتراحهم.
كان أباً للحزب، وأباً للمقاومين، وأباً لكل مظلوم ومحروم؛ يتحدث إلى الفقراء بلغتهم، ويشاركهم همومهم، ويضع يده على جراح الأُمَّة.
لم تكن السلطة عنده غاية، ولا المنصب وسيلة للتباهي، بل كان تجسيداً حيّاً لقول الإمام علي عليه السلام: «الناس صنفان؛ أخ لك في الدين، أَو نظير لك في الخلق»، فكانت رسالته إنسانية شاملة تدافع عن كُلّ مظلوم أينما كان، وتنصر كُلّ قضية عادلة، من فلسطين إلى العراق إلى سورية إلى اليمن. كان همه الأكبر وحدة الأُمَّة وكرامتها وعزتها.
لقد استشهد سماحته؛ لكن روحه وفكره ومدرسته باقية.
لقد غيّر مفهوم الشهادة، جعلها ذروة المجد لا نهاية الطريق. زرع فينا يقيناً أن الشهيد لا يموت، بل ينتقل إلى حياة أوسع وأعظم، وأن دمه هو الذي يضيء الطريق للأجيال القادمة.
ترك لنا تراثاً هائلاً من الخطابات والمواقف والأفكار. ترك لنا مقولة: «إذا كان كُلّ العالم معكم، والله ضدكم، فلن تنتصروا، وإذا كان كُلّ العالم ضدكم، والله معكم، فلن يهزمكم أحد»، وهي خلاصة إيمانه الراسخ. لقد كان قرآناً يمشي على الأرض، يطبق تعاليم الله في القيادة والجهاد والأخلاق.
أعرف أنني مهما كتبت فلن أستطيع أن أوفي هذا الشهيد العظيم حقه؛ فكلماتي تظل قاصرة وعقلي محدوداً أمام سعة أفقه وعمق بصيرته.
ولكنني أكتب لأَنَّ الواجب يحتم عليَّ أن أحاول، أن أنقل ولو جزءاً بسيطاً من مشاعري وإجلالي؛ فربما تكون هذه الكلمات شرارة في نفس قارئها ليبحث أكثر، ليعرف أكثر عن هذه القامة الشامخة، شهيد الإسلام والإنسانية، الذي جسد بدمه وروحه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن الأُمَّة التي تنجب مثل الشهيد السيد حسن نصر الله هي أُمَّة خالدة لا تُقهَر، وأن القلم، وإن عجز عن الوصف، يبقى وسيلة من وسائل المقاومة لنقل الرسالة وترسيخ الذكرى ومواصلة المسيرة، مسيرة العزة والحرية التي ضحى مِن أجلِها سماحته بكل شيء حتى آخر نفَسٍ في حياته.
لقد كان نوراً وناراً، نوراً هادياً للأُمَّة، وناراً تحرق أعداءها، وسنظل على عهده ماضين على الدرب مقاومين حتى النصر.

أترك تعليقاً

التعليقات