ويبقى الحسين
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
حاول المتشبعون بعفن الجهل الطائفي، الخارجون من مسابك التكفير والقتل واستباحة كل الحرمات لكل مَن لا يتبع جماعتهم، ويلتزم فكرهم، ويتمثل مذهبهم؛ الطعن بكل مَن يقول: إن المعركة بين الحسين ويزيد ليست حدثًا عابرًا، مضى وانقضى في سنة 61 للهجرة، في العاشر من محرم، بل هي معركة ممتدة إلى الحاضر، وستبقى في المستقبل، باعتبار أن الزمان كله قائم على الصراع بين الحق (الحسين) والباطل (يزيد).
لقد أعمتهم الطائفية المقيتة عن الأدراك لحقيقة مفادها: أن هذا الزمان، هو حسيني بامتياز؛ فلقد شاءت حكمة الله تعالى أن يصبح الزمان في خدمة القضية الحسينية، وأن تكون إمكانات العصر خير خادم لهذا الحدث. فإذا كان الحسين هو ملهم العبرة بكسر العين، ومسيل العبرة، بفتح العين، فإن العصر شاهد على أن المشهد الحسيني وحده الذي مثل خروج العدل كله ضد الظلم كله. وهو المشهد الوحيد في عالمنا الذي أسال كل هذا القدر من العبرات. فالأمة التي عاشت قرونا لا تكاد تدرك من هذا الحدث إلا كما تسمع عن كل حادثة بعيدة لا تتصل بماضيها ولا بحاضرها ومستقبلها، أكدت على أنها أمة عاشت على جهل بتاريخها فضلا عن كونها لم تنجز فلسفة للتاريخ من خلال ما امتلكته من مقومات رسالية ورغم أنها تسلطت على الزمان حضاريا لقرون من الزمان. فالتاريخ لايزال لديها حكيا وإخبارا، لا عبرة وفلسفة. لذلك نجد ما قاله أحدهم بهذا الخصوص صائباً، إذ يقول: نحن أمة تاريخية لكنها خارج منطق التاريخ. هي أمة مارست الكتابة التاريخية، لكنها جهلت تاريخها.
تلك هي مفارقة أمة أحصت المبتدأ والخبر، لكنها لم تدرك المبتدأ ولا أدركت الخبر. فلا غرابة أن تجد من الأمة من يحفظ غرائب القصص ويستحضر بتأمل ومنتهى الشوق والشغف ما فاض به ألف ليلة وليلة أو عقد بن عبد ربه أو حيوان الجاحظ من قصص الخيال ويتدبر في يقظات وهجعات مجنون ليلى، في نسج الكتب المؤرخة للأدب، ولا يقف متأملا ولا مندهشا من مذبحة كربلاء. ومنهم من أعماه التعصب فكتب عن الطاغية الحجاج والشهيد الذبيح ابن جبير ولم يكتب عن أبي عبدالله الحسين شيئا، بل غاظه أن هول من أمر استشهاد الحسين، مع أن الشيعة لم تفعل بذكر الحسين أبعد مما ذكره هذا الشيخ القرضاوي في مسرحية الطاغية التي روى فيها حدث مقتل المحدث سعيد بن جبير على يد الحجاج بن يوسف الثقفي.
إن شأن الحوادث التاريخية أن تكون موجودة وواضحة، لكنها قلما يلتفت إليها. وكثيرا ما تصبح ضحية غفلة البشر وآفة نسيانهم. لكن الآية هي ما يظهر عند كل لحظة تاريخية حرجة، وعند كل بلاء محدق وعند كل انسداد عظيم. إن عاشوراء التي كان بنو أمية وبنو العباس ومن سلك مسلكهم يمنعون من سماع ذكراها عند العاشر من كل محرم، هي اليوم حدث وطقس يسمع في كل الدنيا ويدخل كل بيت في الشرق وفي الغرب. فالحسين لم يعد ذلك المظلوم الذي حاول عمر بن سعد وعبيدالله بن زياد ويزيد بن معاوية أن يوقفوه ويقتلوه بالعراء ويعملوا فيه وعائلته وأصحابه السيف حتى لا يسمع بهم أحد، فتضيع قضيتهم في صمت الصحراء، ويطوي سجله التضليل والنسيان. بل هو اليوم الحسين الذي يعرفه كل بيت في الدنيا والذي تتذكره القارات الخمس، حتى من لا يهمه أمر الحسين يسمع ويرى ويعرف أن ثمة حدثًا ما وقع في كربلاء وأن حفيدا للنبي تعرض للظلم وعمل في ما تبقى من نسله السيف، وأن ثمة قضية إنسانية حملها الحسين وهي التي يعبر عنها محبوه وأنصاره في كل جيل بصور وكيفيات مختلفة، كل يعبر بطريقته، فالمضمون الواحد قابل لأن يقرأ بطرق مختلفة. تعددت الوسائل والطرق والكيفيات لكن القضية واحدة. فلا نقرأ المعنى في مظاهر الطقس بل علينا أن نقرأها في طياته.
من هنا أردنا أن نتوقف عند عبارة لابن خلدون قالها في مقدمته، وأحسبه قرأها في إطار رؤيته الضيقة للعصبية والغلب دون أن يفسح الظاهرة التاريخية والعمرانية لأكثر من مقاربة. ليس ثمة معراة في فلسفة التاريخ الخلدونية فقط، بل ثمة معراة في السوسيولوجيا الخلدونية أيضا لا يحجبها ذلك التألق في فلسفة العمران كما برع فيها هذا الأخير، وليته حررها من تأثير التزامه الكلامي والمذهبي والفقهي الخاص، إذن لأتى بما هو أدق وأوفى. لذا يتحدث عن غلط الإمام الحسين في ثورته على يزيد، بوصفها مغامرة، نظرا للفرق الهائل بين ما يملكه الإمام الحسين من عصبية الهواشم التي كانت في طريق الانقراض والضعف كما حكى ابن خلدون، وبين عصبية يزيد الأموية التي كانت في أوجها. كان الحق مع الحسين لكن العصبية كانت مع يزيد. إن تغليط الحسين ليس ذا مدلول عقائدي صريح هنا، بل تغليط في تقدير العصبية. وإذا أدركنا أن الغلط في تقدير العصبية في المنظور التداولي البراغماتي لفيلسوف العمران هو أخطر وأكبر من الغلط السلوكي والأخلاقي والعقائدي من حيث تأثيره على العمران، ندرك أن ابن خلدون أراد أن يخرج الموقف الحسيني من الوعي التاريخي ويجعله خارج منطق العمران.

أترك تعليقاً

التعليقات