جدلية التقدم والتخلف
 

توفيق هزمل

توفيق هزمل / لا ميديا -
تحول الكثير من المجتمعات الشرقية من مجتمعات زراعية إنتاجية إلى مجتمعات استهلاكية، حيث كانت هذه المجتمعات تعيش على شكل وحدات شبه مكتفية ذاتياً، أي مجتمعات قروية ريفية، وتوفر كل وحدة حالة من الأمن الغذائي من خلال إنتاجها الزراعي وتربية الحيوانات وتقوم ببيع فائض الإنتاج للحصول على المتطلبات المعيشية غير المتوفرة لديها.
بعد الثورة المعرفية في الغرب، والتي أطلقت عصر المكننة والإنتاج الصناعي وما تبع ذلك من الاحتياج إلى خامات أساسية للصناعة، وكذا الحاجة لفتح أسواق لاستهلاك فائض الإنتاج، بدأ الغرب في التوسع شرقاً للسيطرة عليه عبر عدد من الطرق والمراحل:
الأولى: هي المرحلة الاستشراقية لدراسة المجتمعات الشرقية وبيئتها وجغرافيتها وثرواتها وموقعها، وكذا دراسة عاداتها وتقاليدها وأديانها وثقافاتها وطبيعة النسيج الاجتماعي... إلخ.
الثانية: العمل على استقطاب نخب اجتماعية للدراسة في الغرب، وبالتالي خلق صدمة حضارية تدفعها للتفكير في أسرع الطرق للوصول إلى المستوى الحضاري الغربي.
والثالثة: إنشاء جماعات ثقافية سياسية أو دينية ذات رؤوس أو قيادات مرتبطة بأجهزة المخابرات الغربية ودفعها وتمويلها للاستيلاء على الحكم في بلدانها أو بالحد الأدنى إضعاف سلطة القوى التقليدية بالبلدان المستهدفة ودفعها للاعتماد على الغرب في حمايتها.
الرابعة: الغزو العسكري المباشر.
بعد السيطرة على المجتمعات الشرقية وعلى قرارها جرى العمل على مسارين:
المسار الأول: استغلال ثرواتها أو مواقعها الجغرافية.
المسار الثاني: العمل على تحويلها إلى مجتمعات استهلاكية للبضائع والمنتجات والخدمات الغربية، والقضاء على مفهوم الاكتفاء الذاتي الزراعي، من خلال الإغراق بمنتجات زراعية غربية رخيصة الثمن.
من هنا ظهرت المدن الحديثة في أغلب دول الشرق، حيث السيارات والكهرباء والخدمات والبضائع المستوردة... إلخ، وهو الأمر الذي دفع سكان الأرياف للعيش بالمدن، وبالتالي تغيير خصائص ومهام الدولة في دول المشرق من دورها كمنظم لقطاعات الإنتاج وللعلاقة بين السكان والجغرافيا والثروات لضمان رفع مستويات الإنتاج إلى نظام الدولة الريعية، حيث تجبي الدولة الريعية الأموال وتبيع الثروات الخام وتستجدي المساعدات والديون من الخارج... إلخ، لتقوم بإعادة توزيعها على السكان بشكل متفاوت على شكل وظائف وتوفير متطلبات الحياة المحاكية للنمط الغربي (شبكات الطرق والكهرباء والمياه والمجاري والطبابة والتعليم... إلخ)، ولكن بمستويات رديئة للغاية نتيجة محدودية الموارد بسبب توقف المجتمعات عن الإنتاج.
وأخطر ما قامت به الدول الريعية هو التعليم الرديء والوهمي، فحولته إلى ماكينة إنتاج لأنصاف المتعلمين الباحثين عن وظائف، وهو الأمر الذي أنتج نخباً طفيلية الفكر والثقافة والرؤية، لتعيش المجتمعات في طاحونة من الجهل والتخلف والفقر والحاجة.
ومع ظهور طبقات طفيلية مترفة نتيجة الوضعية السابقة (سياسية وعسكرية وأمنية وإدارية وتجارية ونخبوية) تعيش نمط الحياة الغربي بكل تفاصيله، أدى ذلك إلى نوع من الطبقية الاجتماعية، وبالتالي انقسام هذه المجتمعات بين تيارين، تيار ديني محافظ يمثل الريف، وتيار انفتاحي يمثل المدن، وأصبحت القضية المركزية لهذه المجتمعات هي جدلية التدين والانفتاح، والتي حلت محل نقاش جدلية التقدم والتخلف، مما حوّلها إلى دول وشعوب قابلة للاستعمار والاستحمار، وبالتالي إدارتها والتحكم فيها عن بعد من قبل القوى العالمية المهيمنة، مع توفير تكاليف وأعباء الاستعمار ومسؤولياته، ويكفي إثارة فتن داخلية أو حصار بحري أو بري أو عقوبات لإخضاعها كلما تمردت.

أترك تعليقاً

التعليقات