الكلمات..هبة إلهية وقبضة شيطانية
- محمود ياسين الأثنين , 11 نـوفـمـبـر , 2024 الساعة 12:21:22 AM
- 0 تعليقات
محمود ياسين / لا ميديا -
بالكتابة فحسب يمكنك تقمص إله إغريقي غاضب ومغرم بامرأة من البشر وضعها إلى جواره على جبل الأولمب. وبالكلمات تتسكع في أزقة لندن، وترثي العالم البائس في حانة قديمة بضاحية في إيطاليا...
إنها آلة الزمن، وبوسعك الانتقال لحضور آخر عروض البلشواي متأبطاً ذراع فاتنة أوكرانية، أو الجلوس قريبا من ستالين في صباح سوفييتي بينما تمر القوة الفولاذية على أسفلت الساحة الحمراء، وفي روحك تجيش مشاعر دبابة وحيدة ومهملة هناك في خرابة نسيتها موسكو.
أنت «معطف» غوغول، والشريك الإنساني لآلام فيرتر، وبالكتابة تخلق عالما وترتجل صخبا وتجلس جوار الدلاي لاما متأملاً تموجات الريح على حشائش التبت.
تستعيدك الكتابة من تشوشك ووهنك في التفاصيل اليومية، وحيث يسع صدفة أن تلحق بك هزيمة مجانية في معركة لم تتقنها، فأنت عصي على مراكمة الخبرة الإنسانية والتجارب، شأن الهاربين إلى الفن.
أنت مغامرة مدهشة طالما بقيت قادرا على تطويع الكلمات، الكلمات وحدها. الفن ينقل أحلام اليقظة من مستواها الهروبي الجدير بالشفقة أحيانا إلى ما يبدو ارتجالا لعالم بديل حد الملامسة وتشمم الروائح. الكلمات وحدها تمنحك مفاتيح القلاع وصولجانات الملوك، وبلل شعر محظياتهم. وإذ تستسلم للفن تنتصر على كل ما يتهددك كإنسان مسكون بالوعي المبكر بالخذلان.
الكتابة التي جعلتني راهبا يُعلّم الكونغ فو في معبد شرق الصين، وبعدها بدقائق كنت قرصانا في أعالي البحار دون أن أكون أعورَ؛ لكنني كنت قاسياً ومكتظاً بالجلافة اللائقة بقرصان ملأ سفينته بالجواري اللائي كن قبل مغامرته أميرات مسحورات في إحدى الجزر.
الكتابة تمنحك حربة آخيل، ودرع هكتور، وتبدلك وتنقلك وتمنحك الأقاصي وكل الذي كان ينقصك في كل مرحلة من حياتك. إنها هبة التقمص الجذاب، وتلك الحرية والتعامل مع النفس بسخاء.
إنها الكلمات، تنقلك من محبط في مساء مفخخ بالمصادفات العدائية، إلى ظهر سفينة تقطع الأطلنطي على إيقاع ضربات أصابعك على البيانو. هكذا بحق الموهبة وقدرتها يمكنك الاستحواذ على روح بطل حكاية تحولت إلى فيلم، وبدلا من اقتفاء نصيحة شكسبير وهو يقول لك: «امنح حزنك كلمات»، تقوم بالاستحواذ على أصابع عازف البيانو وتمنح وجودك نغمات، نغمات لك وليست نسخة من نغماته بالضرورة وهو مثلا يلمح امرأة حدقاتها هائلة وتشي ايماءاتها بشبق خمسيني يتأبط فتى من إيرلندا، والكحل المفرط واليدان السمينتان تحولت إلى نغمات، وكان يهمس لبحار قريب من روحه الباحثة عن مرفأ: انظر، هذه المرأة ذبحت زوجها وفرت مع عشيقها حدث السن هذا! تحديقاتها مزيج من النهم والخبرة والإثم... وبدأ بأصابعه يضرب نغمات تنقلك إلى مسرح الجريمة حد الإصغاء لحشرجات الرجل المغدور ورؤية دمه على السجادة الفاخرة!
ليس صحيحاً البتة أن الكتابة عناء. لقد منحتنا نحن القرويين القبضة الفولاذية للإمساك بأعناق متنمري السياسة وأقوياء السلطات، وجعلتنا جهة عقابية، وكنا عرضة للتهديدات بدون كتابة، تهديدات الوظيفة والرقابة الأخلاقية وتلك الآلية التي يعتمدها أفراد محيطك لاستعبادك بدافع الرعاية... كنا بلا قدرة على مواجهة هذا العالم؛ لكن الكلمات جعلتنا نحدق في عيون الخوف وننتزع أكباد الضواري، ومنحتنا مفاتيح القصور لنزج وجودنا في التاريخ منتزعين المحظيات من غرف نوم الأباطرة وتاركين قهقهاتنا تتردد في أرجاء كل بلاط، وكأنّ الكاتب هو الشيطان في «المعلم ومارغريتا»، وفي لحظة ينتقل إلى «فاوست» ليلعب دور الملاك.
بالكتابة أنت غرابة الأطوار وقد أخضعت التاريخ والجغرافيا لتبدلاتك المزاجية، وفصلت الوجود بمقاس لحظتك.
ربما سيكون من الأكثر أناقة لهذا العالم هو التأنق بالكلمات.
نحن، العالقين في موسيقى الجملة، من نتواجد على إيقاع الكلمات، هكذا نعيد توازن أمر الزمن.
يحدث هذا عندما نهتز ونتطوح أو تطوح بنا آلة الوجود اليومي فنضبط الأمر بموسيقى الجملة. حياتك غير متوازنة، ليس بفعل عاداتك السيئة، ولا لكونك مفتقرا للحكمة؛ ولكن لأن موهبتك بحاجة لفوضى أيامك وحسك باللاتوازن، الأمر الذي يمنح الموهبة وظيفة استعادة الضبط، وهكذا في متوالية يومية بالغة الشراهة. البوابة صدئة، وقبلها برميل قمامة فيه كل شيء من محفزات التفكير في كون الفقر ابتذالاً ومناهضاً لفكرة الجمال. لم تقم بحلاقة ذقنك أيضا، وكل ما حولك يعكس تململ ذقن غير حليق وعلاقة غير منسجمة بين القميص والبنطلون! تكتب فتترتب الألوان من تلقاء نفسها. تكتب كمن يخلع وقته النشاز ويتخلص من قبح رسالة وصلته في الخاص. بالكتابة يمكنك ادعاء الجلوس في الصف الأمامي بمسرح البولشوي في موسكو لتلحظ النغمة المركزية بين الحركات، ابتداء من حركة ساق الفتاة وانتهاء بآخر ضربة على مفتاح البيانو في باليه «بحيرة البجع».
بالكلمات تمتلك الجسارة الكافية لمقاسمة الإمبراطورة كاترين فراشها، مستبعدا كل جنرالات جيشها الواقفين على الباب. الكتابة تميمة الساحر الشريد الغارق في التأملات والملذات والمتلصص الحصري على التاريخ وهو يقوم بترتيب الفوضى على نحو مختلف ومقبول في كل مرة.
أياً يكن لون المساء وطبيعة الأصوات، ومهما ارتجلت حدود المكان أسبابا لحصارك، لديك المفتاح: سحر الكتابة.
بها فقط يمكنك مراقصة سكارليت جونسون والهمس في أذنها: العرب ليسوا كريهين كما تقولين، خصرك يدرك هذا أكثر.
بوسعك الوصول إلى الأقاصي، متجاوزا حدود البلدان بالكلمات. وبها أيضا تستعيد بلادك من أناقة وبراعة أصابعك، ومما يدور بينكما، بلد ووشة امرأة! كلماتك وهي تلفت انتباه التاريخ لوجوب التحلي باللياقة.
المصدر محمود ياسين
زيارة جميع مقالات: محمود ياسين