أظنني كتبت روايات
 

محمود ياسين

محمود ياسين / لا ميديا -
تخطر لي هكذا كأنها ليست مهمة بحال، كأنما كتبها طالب ثانوية يرتدي تي شيرت وبنطلون جينز ويسكن في غرفة تراكمت إيجاراتها وأعقاب السجائر على وجود موهبة تقرف من كونها موهبة.
الآن يتقمصني كهل يعاني الزهايمر ويخطر له لماما أغلفة رواياته وفيها ألوان منتزعة من لوحات رسام طليعي يقطن في غرفة تراكم إيجارها وتراكمت أعقاب السجائر على وجوده.
كهل سمين هكذا ولحيته كثة، محاط بالأحفاد وبكل الذي يفترض به أساسيا في دنيا لا تكف دائما عن كونها ناقصة وهناك بالضرورة ما كان عليك القيام به.
تسرد في اليمن وتبتكر شخصيات ثم لا تعود تدري أين ذهبت شخصياتك الروائية تلك، أين ذهب العزي بطل «تبادل الهزء»؟ هل مات يوم حادثة إطلاق النار أثناء أو بعد ما كان يسرق جربة قات؟ هل نجا وعاد إلى صنعاء ليكمل مسيرته الصحفية أو أنه بقي في القرية يتتبع آثار تقدم العمر على ملامح نساء ماضية وهن يكبرن وتبرز العروق على سطح أكفهن وهو يراقب محتجزا في الزمن ولا يكاد يتقدم في العمر وكأنه هو ذاته طالب الثانوية العائد كل مساء خميس للقرية بفانلة تي شيرت وبنطلون جينز.
يقـــول كونديرا إن شخصياتنا الروائيـــــة التي نكتبها هي ممكناتنا اللامتحققة في الحياة، إننا نسرد بقية ما أغفلناه وكان علينا القيام به فندع لتلك الشخصيات القيام بكل الذي كان علينا القيام به، وتكرار جملة «كل الذي كان علينا القيام به» في عبارة واحدة، لا يبدو لي أنه تكرار استجابة لشروط الموسيقى والنغمة المعادة فنا واستجابة للإيقاع بقدر ما أن تكرار هذه «كل الذي كان علينا القيام به» شكل من استجابة لذلك التململ والوجود اللامستريح مع النواقص ومع ما كان ينبغي مهما ادعى أحدنا أنه مكتمل بنواقصه وليس بنقائصه حتى.
أرهب من تصفح «تبادل الهزء» ويتقمصني مزاج محتال تمكن من خداع الآخرين بأداء كل ما عاد إليه كل ما تذكر المجازفة الاحتيالية أو أنني أخشى حقا أن أعود لماضي الشخصي الذي هو رواية بين غلافين وكتبتها أنا ولا أحتمل العودة لمزاج وتهويمات أيام كتابتها، ولا أحتمل العودة للتداعيات الذهنية ولا للوهن السري الذي يُقال إنه مبعث الفن الأصيل، تركت مهمة العودة الشجاعة للماضي تركتها لشخص ابتكرته في الرواية وزودته بالشجاعة الكافية لمبادلـــــة الماضـــي هزءا وانفعـــالات وتهويمات، الأمر الذي لا يسعني الإقدام عليه كإنسان يريد أن يمضي مســاء آمنـــــا، البديل جاهز وهو بطل تختلقه لينجز ما لم تتمكن أنت من إنجازه، بطل جاهز للفشل حتى وبوسعه إشعال سيجارة وسحب نفس عميق ظافر كمن يحتفل بكونه مجرد إنسان، وتلك بطولتي، اختراع أبطال قادرين على القيام بكل الذي لم أقم به.
أنت يا صديقي تقرأ الآن ولربما يخطر لك حالة كمال متخيلة للكاتب، الكاتب الذي اكتمل في وعيك لحظة إقراره بالمسافة بينه وبين كل الذي لم يقم به، فتحصي نواقصك بعدها في حالة من نشدان الكمال.
الفكرة كانت في البداية عن: أين رواياتي؟ ما الذي ترتب عليها؟ كيف يمضي روائي أوروبي حياته وقد أنجز روايات؟ هل يتجول مثلا بخطوات متئدة أو وئيدة ويدخن من غليون خشبي ويجلس على مقعد أمامي في أحد معارض الكتاب ليوقع نسخا مشتراة ويبتسم لمعجبيه؟ ما هي الحياة الروائية؟ الحزن العميق مثلا؟
سأخبركم تفصيلا مهما، أتصور أنه ما من روائي يتشاجر مع أحد سكان عمارة الحي على موقف سيارة، أو أنه لا يوجد روائي قد يتساءل عن ثمن القصبة في أرض ورثها أبوه عن أمه وورثها هو عن أبيه في وادي الوطأة ويتساءل عند المغرب: بكم القصبه هذي الأيام؟
لا أدري.
كتبت خمس روايات، نشرت اثنتين وأثناء الكتابة لم يتبادر إلى ذهني جائزة البوكر مثلا أو أنني مبتدئ، أكتب وفي ذهني السرد فحسب، وقد أتخاطر مع ذهن مارسيل بروست ويصلني منه تساؤل حول: كيف تمكنت من تخطي هذه المعضلة؟
تمضي رواياتي حياتها بمعزل عني، تتجول في العواصم بمعارض الكتب وأنا هنا في صنعاء أنتشي وأشرب الماء وأتشاجر لأسباب تافهة أو جدية لا يهم، ويصلني تقريض من ناقد سوري اسمه خليل صويلح يخبرني أحد أهم الروائيين العرب، ولم أرسل له حتى كلمة شكر، أعاني رهاب الاحتفاء ولا أدري لماذا، يجعلني الاحتفاء بنفسي هكذا أشعر بتورم في المشاعر، لكن كلمات صويلح تجعلني أفضل على أية حال، والآن تتصفح الريح أغلفة رواياتي وتستثر على سطحها الأملس أتربة عنيدة متشبثة بتفاصيل حياة في الأسفل لا تخصها، لكنها حياة مهملة جديرة بأن تستقر عليها أتربة وصدف وبهت ألوان وما شابه.
ولأن الإلحاح كان لثيمة «كل الذي لم أقم به» انتقل بي التساؤل حوله إلى إدراك كل الذي قمت به ونسيته، ولا أدري هل نسيت رواياتي أم نسيني أبطالها الذين اخترعتهم ووجد كل منهم لنفسه حياة وعائلة، وكنت أظن لا أحد لهم في العالم سواي.

أترك تعليقاً

التعليقات