في قاع الإسكيمو
 

محمود ياسين

محمود ياسين / لا ميديا -
أنا مستأجر أرضية في الإسكيمو.
هذه ليست شقة البتة.
بدأت «أستدبب»، وينبت لي فرو يذكّرني بالدببة القطبية طيّبة القلب، والتي تناضل في مسلسلات الكرتون في سبيل الخير بوجه الشر.
اليوم اتصلت بكل أصدقائي من ذوي المقايل الموجهة جنوباً وقبالة الشمس في صنعاء، أخبرتهم واحداً واحداً أنني أحنّ لأحاديثهم الملهمة ولجلساتنا الرائعة والأيام الخوالي! كانوا سعداء بهذا، ولقد أثنى غالبيتهم على جانبي المتسامح الطيّب وعما أتمتع به من دوافع عاطفية مرتبطة بأخلاق القروي النبيل الذي لا ينسى أصحابه. لم يتنبه أيٌّ منهم لأسبابي المناخية.
يجعلك المناخ السيئ لطيف المعشر ومستعداً للاعتذار عن أخطاء لا تذكرها لأصدقاء كنت في الصيف قد خلصت إلى كونهم تجسيدا للخطأ.
أحب عبد الوهاب حقاً؛ لكنني اليوم بالغت في إظهار الود تقديراً لمقيله الأشبه بمنتجع ملكي مكيّف بالشمس. وعندما أفصحت له عن دوافعي المناخية بدأ يقهقه بإفراط مقابل ما أظهرته أنا من دماثة.
اليوم، أخبرت المؤجر أن خمسين ألفاً هو مبلغ مبالغ فيه مقابل الحياة في قاع بركة تصطك جدرانها من فرط إحساسها هي بالبرد. لم يتنبه لما ظننته دعابة، وراح يسأل عن مصدر الماء وما إذا كنت قد تسببت في خراب السطح وما شابه.
أضحك الله سن المؤجر.
الشمس لا تُشرق على نوافذي، ولا تغرب أيضا، حتى أنني لم أعد أصادفها إلا في فيديوهات علوم الفضاء، ولم أعد أشاهد فيديوهات غير هذه النوعية التي تصور لك قرص الشمس ويتحدث فيها المعلق المتخصص عن مائة وخمسين مليون درجة في قلب الشمس، فتود لو كانت الشمس امرأة انبهرت بشخصيتك النابهة ومزاجك الطيب لتهمس لك: أنت في القلب!
أثناء هذا ثمة مخالب تنمو بدلاً من الأظافر، وبدأتُ أستمزج رائحة السمك حد الهوس، ناهيك عن ثقل الحركة وتفاقم حاسة الشم حد معرفة ما الذي يحترق في مقلب القمامة بالروضة.
مناخ قطبي مكتمل العناصر؛ لكنني لا أمتلك فيه حق البيات الشتوي والنوم لستة أشهر.
اليوم، أثنى المؤجر على ما أتمتع به من خُلُق استئجاري، مشيراً إلى أنه لم يعد عليّ سوى شهر ديسمبر الذي لم ينقضِ بعد؛ و»شهر» تعني أنك قدوة في عالم المستأجرين هذه الأيام، ملتزم جداً في أجواء استئجارية يرزح فيها البعض تحت ثقل ستة أشهر أو سنة!
وكم أنهم متعبون حقاً، ويكاد أحدهم وأنا أعرفه جيداً ويقطن لدى مؤجر بغيض مختلف عن مؤجرنا الرائع فعلاً، صاحبي هذا هو عبد العليم، المستأجر في قصيدة محمد حسين هيثم: «مات عبد العليم».
وابن المؤجر في أول الشهر
وابن المؤجر في آخر الشهر
ثم المؤجر في كل رشفة ماء...
لم أحدثه بالطبع عن أننا في العمارة بحاجة لخيم من ذلك النوع الذي يحصل عليه اللاجئون. أحد سكان العمارة نصب خيمة صغيرة في الصالة، ومن يومها لم يتوقف عن امتداح هذا الإجراء. لم أخبره أيضا عن كونك تخزّن وأنت «مازل»، وأن السقف اشترك في المؤامرة الكونية وبدأ هو الآخر يوطل ماء دون مطر، وإنما هكذا لعانة...
وكيف أن شركة لتوريد اللحوم المجمدة عرضت عليَّ استئجار «المجلس» بمائة ألف شهرياً؛ غير أنني رفضت العرض، احتراماً للمواثيق والاتفاقيات ذات الصلة...
وأنني البارحة، وبسبب من إدمان سوء الفهم بيني وبين أصدقائي مؤخراً، قررتُ التخزين في مجلسي وحيداً، وضمن استجابة لنصائح كسب الذات واستعادة الروح بالابتعاد عن الآخرين... وكيف أنه ما إن مضت ربع ساعة إلا وأنا ألتقط أغصان القات بأصابع مرتعشة غير جديرة بقيادة التوحد، وما إن أتى المغرب حتى كنت بلا ذات ولا روح، وبالكاد نزعت القات من فمي بخطاطيف حديدية من ذلك النوع المستخدم في نزع كتل الإسمنت التالفة...
سألني: جنبك صوايح وغاغة كأنك في لوكندة (يجوا كل اصحاب همدان يتشارعوا ويتصايحوا عند عبد الوهاب)! وأضاف: ليش ما تخزن بحقك المجلس؟!
قلت: شُلَخ!
يعبث الصقيع بساعتك البيولوجية ويعيد تعريف الأخلاق، وينسف مسلّمات علم وظائف الأعضاء.
بقي لي ليلتان في هذا المكان، وأنقرض!

أترك تعليقاً

التعليقات