عبدالرحمن العابد

عبدالرحمن العابد / لا ميديا -
يمكن اعتبار قانون الاستثمار الذي صدر مؤخراً خطوة إيجابية نحو تعزيز الحوافز الاقتصادية اللازمة للحفاظ على رأس المال الوطني الموجود حالياً كخطوة أولى على الأقل، يليها ضرورة جذب استثمارات جديدة لضخ أموال كافية تسهم في التنمية الاقتصادية المطلوبة.
لتوضيح أهمية هذا القانون اسمحوا لي أن أضع السؤال التالي مع الشرح المسهب اللاحق للاستدلال والاستشهاد.
السؤال: اقتصادياً، ما الذي يسعى إليه الأعداء لبلادنا في هذه الفترة؟ وهل ما يجري حالياً تكرار لسيناريو سابق تم تطبيقه؟
للإجابة على هذا السؤال، دعونا نرجع قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى فترة انقسام العالم إلى كتلتين (شرقية وغربية) في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
كانت مدينة عدن بتلك الآونة تحت تأثير الاتحاد السوفييتي، بينما كانت صنعاء تتعامل مع كلتا الكتلتين لكنها انحازت في النهاية إلى الفلك الأمريكي مستفيدة من الدعم البريطاني والخليجي.
قبلها خلال العقد الأخير من حكم بريطانيا لمدينة عدن، كان قد برز عدد كبير من التجار الذين استفادوا من النشاط التجاري لميناء عدن وأصبحوا وكلاء لأشهر الماركات والمنتجات العالمية، وأدى ذلك إلى ازدهار أوضاع الكثير من التجار الأصغر منهم، مستفيدين جراء تلك الأنشطة والحراك التجاري وتزايد عدد الأثرياء، ومن بين أولئك المستفيدين صغار الباعة ومالكو الفنادق والمطاعم وتكوينهم لرؤوس أموال كبيرة.
لكن بعد انسحاب البريطانيين وحلول الحكم الاشتراكي بفكرة تأميم ممتلكات الناس وضمها إلى ممتلكات الدولة، هرب كثير من تجار الجنوب بأموالهم إلى المحافظات الشمالية، وساهموا مع التجار الشماليين في انتعاش الأوضاع الاقتصادية في المدن الرئيسية الكبيرة حينها، مثل صنعاء وتعز والحديدة، وانعكس ذلك بالتالي على باقي المحافظات تدريجياً، إلى أن عم الجمهورية العربية اليمنية حسب تسميتها السابقة.
استمر تدفق رؤوس الأموال من الجنوب إلى الشمال نتيجة التأميم لعدة عقود، مما أثر سلباً في النشاط التجاري في عدن وباقي المحافظات الجنوبية، وارتفعت معدلات البطالة بين المواطنين الذين لم يكن أمامهم خيارات سوى العمل كجنود أو موظفين حكوميين بأجور زهيدة في الأنشطة التجارية (السابق تأميمها)، معتمدين على ما يُقدم لهم تحت اسم "الراشن".
كانت بريطانيا قد طلبت بعد مغادرة جنودها من العاملين معها خلال فترة احتلالها مغادرة البلاد خوفاً على حياتهم (كما حدث في أفغانستان مؤخراً)، ما أدى إلى انتشار فكرة "المخلقة"، وهي شهادة الميلاد التي كانت تُمنح خلال حكم بريطانيا لأبناء العاملين معهم كإثبات لمن يستحقون جلبهم إلى بريطانيا وبعض الدول الباقي نفوذها في نطاقها، ومن بينهم الكثير ممن يملكون الخبرة الإدارية والكفاءة لإدارة المنشآت الاقتصادية وخسرهم البلد.
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة أصبح حلم الكثير من سكان الجنوب الهجرة إلى دول الخليج النفطية الثرية. ومع منع قبول جوازات السفر الجنوبية بتلك الدول، كان على الكثير منهم الهروب إلى الشمال للحصول على وثائق هوية جديدة وجواز سفر من اليمن الشمالي سابقاً تمهيداً لقبول دخولهم إلى الدول الخليجية وحتى الأوروبية وأمريكا.
بذلك، غادر العديد من الشباب القادرين على العمل، ما أدى إلى نقص العمالة في الزراعة والمصانع.
ثم جاءت أحداث 13 يناير 1986، التي قضت على نحو ثلاثين ألفاً من القيادات والكفاءات، ما ترك اليمن الجنوبي متأثراً بأزمات اقتصادية وديون كبيرة، مفتقراً للخبرات ما دفعهم للاندفاع إلى الوحدة اليمنية قبل الانهيار التام.
تم منح التجار القادمين من الجنوب امتيازات كبيرة في الشمال من بينها الحصول على الأراضي لمنشآتهم والإعفاءات الجمركية والضريبية، وعدد من أكبر الأسماء التجارية والاقتصادية حالياً في البلد جاؤوا من عدن والجنوب، مثل شركات هائل وأمين درهم ووكالة بازرعة وإخوان ثابت وكثير غيرها، وحتى مطاعم الشيباني.
اليوم، يبدو أن الأعداء يسعون لتحقيق الأهداف نفسها التي تم تهيئتها في تلك العقود الغابرة، ولكن بأسلوب مغاير وفي اتجاه معاكس، تساهم بعض الممارسات الحالية الرعناء في تحقيق تلك الأهداف، فكما كانت سياسة التأميم عنصراً رئيسياً خلال الحقبة الاشتراكية، ما دفع أصحاب رؤوس الأموال الوطنية والكفاءات والموهوبين والخبرات للهجرة، يجري الأمر حالياً وسط إغراءات من دول الجوار التي تشهد ازدهاراً اقتصادياً يفوق الذي كان في حقبة السبعينيات والثمانينيات وتطلب الملايين من الأيدي العاملة وتقدم امتيازات هائلة للاستثمار، وهو ما أدى إلى فرار الكثيرين وقد يؤدي مع مرور الزمن في المستقبل إلى شح في الموارد التجارية والخدمات الأساسية وتزايد أعداد البطالة لأعلى مستوياتها، وهو ما نخشاه على بلدنا، ونتمنى تجنب حدوثه بكل تأكيد.
وبالعودة للموضوع الرئيسي، فإن قانون الاستثمار المؤمل منه، بإذن الله، تلافي السيناريو السيئ السابق شرحه، لكنه وحده لا يكفي لإزالة الخطر الذي بدأ بالفعل وغادرت البلد مليارات من رأس المال الوطني.
ولتحقيق الأهداف المؤملة من إصدار القانون هناك حاجة ملحة لاتخاذ خطوات عملية -إلى جوار صدور القانون- تؤدي إلى إعادة الثقة في نفوس التجار والمستثمرين التي تزعزعت مؤخراً بسبب العديد من الممارسات السلبية.
من أبرز هذه الخطوات ضرورة وقف أي ممارسات يتعرض لها التجار والمستثمرون ومالكي رؤوس الأموال بطريقة سيئة خارج القانون، وتهيئة المناخ لاستثمار حقيقي يعود بالنفع على البلد ويلمس الناس أثره في حياتهم، ومن الممارسات السلبية المشهودة إغلاق شركاتهم ومحلاتهم بأسلوب "التهباش" الذي كان يشكو منه المواطنون خلال فترة النظام السابق رغم أنه حدث سابقاً بشكل أقل من الوقت الحالي، بالإضافة إلى تجنب الأعمال الأخرى التي تُمارس تحت اسم "الشراكة بالحماية".
كذلك يجب أيضاً رفع اليد عما يُعرف بـ"الحراسة القضائية" وأخواتها، والتوقف عن توجيه اتهامات جزافية بالخيانة والتخابر مع الخارج بهدف الاستحواذ على الممتلكات التي تشبه ممارسات التأميم في النظام الاشتراكي السابق.
وإذا كان التأميم وفقاً للمفهوم الاشتراكي يؤدي إلى تحويل جميع الممتلكات المؤممة وإيراداتها إلى سلطة وخزينة الدولة، فإن "الحراسة القضائية" في كثير من الحالات تصب في جيوب أفراد معينين، حيث يتم تمليك الممتلكات لأشخاص محددين أو تدخل إيراداتها على الأقل إلى جيوبهم.
ويحدث أن يتم الاستحواذ على تجارة معينة واستبدال ملاكها، ثم فتحها باسم جديد لشخص آخر مع استقطاب غالبية الموظفين أنفسهم من الشركة التي تم الاستحواذ عليها أو إغلاقها تحت أي ذريعة، ثم توزيع ريع الشركة المستنسخة بين عناصر متنفذة حسب حصص محددة مسبقاً.
نبارك لبلدنا صدور قانون الاستثمار وننتظر جميعاً البدء في تطبيقه والعمل على إنجاحه مهما كانت الجهود على أمل لمس ثماره في المستقبل القريب.

أترك تعليقاً

التعليقات