الحدث اليمني وانقلاب الصورة في المنطقة
 

غالب قنديل

غالب قنديل / لا ميديا -
بصمت وبعيدا عن الاستعراض والضجيج في بقعة عربية هامّة وحيوية، ثمّة حشود من مقاومين أبطال يواصلون القتال والصمود بكلّ تواضع وبأس ضد الحرب والحصار. وقد صمدوا وشرعوا يصنعون التغيير الشامل في أصعب الظروف، ضد عدوان وحشي همجي، دبّره حلف لئيم، يقوده الأمريكيون مباشرة، ومعهم الكيان الصهيوني والحكم السعودي. والملحمة اليمنية، التي حفرت مسارا تاريخيا جديدا في منطقة شبه الجزيرة العربية، تشق الطريق لتحولات قومية هادرة ومشعّة، تستكمل إنجازات محور المقاومة في المشرق.
أولاً: نهضة اليمن المقاوم تحمل نبضها وأصالتها من منبتها الشريف والعريق. فهي تعبير عن حركة شعب مجبول على التضحية، يتّسم بالصلابة والهمّة العالية، متمسّك بهويته العربية وبالإرادة والتصميم على صنع المستحيل. وهذا ليس من قبيل المبالغة الإنشائية أو المديح، بل هو توصيف واقعي لما يجري هناك، ولما فاضت به نصوص المؤرخين عن جغرافيا اليمن وبأس أهله الشجعان العصاة، الذين قهروا موجات من الغزو والعدوان عبر العصور. وغالبا ما رست السفن الغازية في السواحل، وتحصّن "المتمردون" في الجبال الوعرة، وكانوا يمارسون فطرتهم في احتراف تقنيات الصيد لاستنزاف المحتلين.
الجديد الذي أسس لانقلاب تاريخي، هو ولادة حركة تحرّرية صلبة، جمعت بين الوعي والحكمة وأصالة الهوية والمراس التاريخي في تلك الرقعة، فتحولت إلى قوة طليعية تكتب تاريخا جديدا لليمن وللمنطقة برمتها، وباتت موضع اهتمام ومتابعة في العالم، لأنها تمسك بقلب الهيمنة الاستعمارية ومنظومتها الرجعية في المنطقة وبشريانها الرئيسي.
ثانياً: تُظهر حركة "أنصار الله" براعة سياسية مدهشة في نسج التحالفات الوطنية، وحشد القوى وشبكها حول أهداف مشتركة، دون ضجيج أو استعراض، ومن غير تنظير أو تعقيد. وقد أحسنت اختيار صيغة اللجان الشعبية كإطار بسيط منظّم بعيد عن تعقيدات الهرمية البيروقراطية الدواوينية، وهي صيغة جبهوية مباشرة لحشد الطاقات وتعبئتها في المطارح، تحوّلت إلى شبكة ممتدة في اليمن المقاوم، تخوض القتال، وتنظم الصمود، وتدير شؤون الناس الحياتية اليومية ضد الحرب والحصار.
وتشبه تجربة "أنصار الله" في اليمن ما صاغه الساندينيون في نيكاراغوا، مع فارق الخصوصيات الوطنية التاريخية والثقافية المميزة لكلّ من التجربتين. وتملي علينا الأمانة العلمية ضرورة التنويه بموقع الحدث اليمني في قلب منطقة حساسة ومهمة، يلتمس فيها الاستعمار الغربي خطرا وجوديا مع كل بارقة لانتشار فكرة تحرير فلسطين وانضمام جموع جديدة وإمكانات قتالية إلى المعركة الوجودية لمحور المقاومة والتحرّر. وقد جعل أبطال اليمن من أهازيج المقاومة وتحرير فلسطين مادة إعلامية، يتابعها العالم على مدار الساعة، بأسلوب بسيط مباشر، يحمل جاذبية ابتعاده عن المبالغة والتنميق والتنميط.
ثالثاً: التحول اليمني سيكون منطلقا لمسار التداعيات الزلزالية في قلب منظومة الهيمنة الاستعمارية. وقد فرض أبطال اليمن المقاوم على حلف العدوان مسارا تراجعيا، تلوح منه مؤشرات التقهقر والانكسار، ولن تلبث تفاعلات الانتصار اليمني أن تلقى صداها المدوّي في شبه الجزيرة العربية، بما تمثّله من عقدة اقتصادية وسياسية ومنظومة مصالح في الشرق والعالم. فما يدور هناك اليوم، وما يُقدّم من تضحيات، يحفر عميقا في مسار التطور التاريخي للمنطقة العربية، ويدشّن سياقا من التحولات الحاسمة، التي ستقود إلى تداعي منظومة الهيمنة وانهيارها.
وبقدر ما مثّلت المملكة السعودية حصنا لتثبيت الهيمنة الغربية، ولمنع التّشبيك العربي الواسع المعادي للاستعمار وللعدوان الصهيوني، فإن عصف التحولات بها من الداخل سيعني تحرير الطاقات العربية في مجابهة الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي، وزعزعة أخطر معاقل النفوذ الاستعماري والنهب اللصوصي لخيرات العرب، التي ستثب مباشرة في طريق التحرر والوحدة والتنمية، وستكون شبه الجزيرة العربية الجديدة على طريق الولادة بسواعد المقاومين الثوار قلعة عروبية حرّة وسندا عظيما لمسار زلزالي ثوري هادر بين المحيط والخليج.

كاتب لبناني.

أترك تعليقاً

التعليقات