الانتفاضة ومحاولة الانقلاب الأمريكية
 

غالب قنديل

غالب قنديل - كاتب لبناني -

تطوي الانتفاضة الشعبية التي تفجرت يوم 17 تشرين الأول شهرا من عمرها كان حافلا بالأحداث والتحولات والظواهر السياسية والمستجدات التي تعكس عمق أزمة النظام الريعي الاستهلاكي التابع للغرب، وغياب البديل الوطني الثوري القادر على إنجاز التغيير المنشود بمحتواه الاقتصادي الاجتماعي وبتعبيراته السياسية، بدءا من إسقاط الهيمنة الأميركية ووصايتها المحكمة على القرار السيادي وعقوباتها التي خنقت الاقتصاد اللبناني. وهذا التغيير ـكما بينت التجربة التاريخيةـ ليس مجرد مصفوفة أفكار ومبادئ متناثرة لمجموع الآمال التي رددتها أجيال لبنانية متعاقبة منذ عام 1943، بدءا من وعد مغدور بإلغاء الصيغة الطائفية السياسية للسلطة لتنظيم تقاسم الريع والنفوذ السياسي داخل المؤسسات بوصفه مصدر الثروات الخاصة والأحجام الشعبية في منظومة البيئة الخدماتية الريعية المتشعبة للنظام القائم. 
أولاً: رغم الإنكار المتواصل لفرضية المؤامرة، لكن العديد من المؤشرات التي صاحبت اندلاع الانتفاضة تؤكد وجود فريق سياسي وإعلامي كان جاهزا بكامل عدته وشعاراته وهتافاته التي عممتها شاشاته وغرف التنسيق بين أطرافه لقطف الثمار واستغلال الوضع الجديد، مما يجيز مشروعية الشك بوجود تدبير محكم لثورة ملونة جرى تحضيرها من شهور عبر مساري الضغوط الأميركية التصاعدية وتجهيز منصات التوظيف السياسي والإعلامي لردود الفعل الشعبية في خدمة الخطط السياسية الأميركية. ومما يلفت الانتباه أن ينطلق شعار حكومة غير سياسية، قبل الانتفاضة بأسابيع، من جهة معروفة بتخندقها الواضح، هي القوات اللبنانية التي سبقت استقالة وزرائها رئيس الحكومة، ثم نزلت بثقلها في مواقع تحشيد متعددة وجاهرت بدور قيادي لكوادرها في ما اصطلح على تسميته بالحراك أو بالثورة البعيدة جذريا عن ثقافة حزب يميني محافظ كان متطرفا دائما في تبنيه للسياسات النيوليبرالية ويرفع شعارات كالخصخصة الشاملة.
ثانياً: إن انفجار الانتفاضة كان حدثا مفاجئا لسائر القوى السياسية المنتمية إلى حلف المقاومة الشريك في السلطة السياسية التي تكرست فيها المساكنة مع فرقاء المحور الآخر، بعد فشل مشاريع أميركية متلاحقة حربية وسياسية لإحكام القبضة على لبنان، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية، ومن ثم في حرب تموز عام 2006 وبعدها في انقلاب الخامس من أيار عام 2008، ومن ثم في غزوة التكفير التي صاحبت العدوان على سورية عام 2011.
فشلت جميع تلك المحاولات في تحجيم حلف المقاومة اللبناني، وتعزز اليأس من الانقلاب بعد انتخاب الرئيس العماد ميشال عون الذي اعتبره المخططون الأميركيون والصهاينة تحولا نوعيا لصالح تحصين المقاومة دستوريا وسياسيا، وهو ما مكنها فعلا من مضاعفة الجهود لامتلاك المزيد من قدرات الردع والدفاع التي أفقدت الكيان الصهيوني زمام المبادرة، كما تبين بعد الغارة الصهيونية على الضاحية الجنوبية التي كرس إثرها رئيس الجمهورية مبدأ حق الرد على العدوان الذي مارسه الجيش اللبناني وجسدته المقاومة.
ثالثاً: في ظل غياب أي صيغة جبهوية مبادرة وطنيا في التصدي للهيمنة الأميركية وعقوباتها مقابل التكيف الحكومي المعلن، وقادرة على تنظيم الاعتراض الشعبي للسياسات الاقتصادية الاجتماعية المدمرة، داهمت الانتفاضة سلطة سياسية تمادت في البطر والتحصن بالعصبيات الطائفية وإدارة الظهر لمعاناة الفئات الوسطى والفقيرة وشكواها المتعاظمة من الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور بنتيجة حالة الركود الاقتصادي التي طالت لبنان وأثرت تداعياتها على الريوع المالية، وخصوصا بعد ما شهدته المنطقة من تحولات وحروب وصراعات بين محوري المقاومة والهيمنة كانت لها انعكاساتها العميقة على نموذج اقتصادي ريعي تابع دمر القطاعات المنتجة وخرب موارد الثروة وحكمته الوصاية الأميركية.
وقد تفاقمت أعراض التأزم بعد العقوبات المصرفية الضارية التي فرضتها إدارة ترامب لتأليب الجمهور اللبناني على المقاومة، في ظل عجز تجاري كبير واقتصاد تابع وهش يعتمد على الاستيراد. وفي هذا التوقيت أظهرت تدابير المصرف المركزي المفوض بتطبيق العقوبات تحت الإشراف الأميركي مخاوف داهمة من الانهيار الذي جرى تأخيره منذ سنوات عديدة باستدراج المزيد من الديون والتقيد بشروط ووصفات مالية واقتصادية تكرس الارتهان للهيمنة الغربية تم ترتيبها في مؤتمرات باريس الثلاثة، وصولا إلى سلة سيدر.
رابعاً: كانت استجابة رئيس الحكومة سعد الحريري لضغط الانفجار الشعبي واضحة في تراجعه المعلن من خلال ورقته الاقتصادية التي أقرها مجلس الوزراء، تحت ضغط حلف المقاومة وممثليه في الحكومة، بإصدار موازنة بلا رسوم وضرائب جديدة وبتعهد بتغطية العجز من أرباح المصارف والمصرف المركزي، ومن تراجعات الحريري التي فرضتها الانتفاضة في البداية كان إدراج بندين هما عودة العمل بقروض الإسكان وتدابير خجولة لدعم الصادرات الصناعية والزراعية؛ بينما خصصت بنود الورقة الأخرى لتلبية رغبات البنك الدولي وما يسمى بالدول المانحة مع الوعد برزمة قوانين مخصصة لمكافحة الفساد والهدر شكلت مطلبا ترددت أصداؤه في الساحات والشوارع.
خامساً: كان المنطقي والمتوقع بعد تلك الاستجابة أن يوضع مجلس الوزراء في حالة انعقاد دائم مع تواجد الجماهير في الساحات وبصورة عاجلة لإحالة مشاريع القوانين الموعودة إلى المجلس النيابي لإصدارها ولاتخاذ التدابير الفورية.
بدلا من ذلك، مارس الرئيس الحريري لأيام ما يشبه الاعتكاف الذي توجه بالاستقالة التي كشفت تسلل مشروع الانقلاب الأميركي على المساكنة لركوب الانتفاضة، بواسطة شريكي الحريري وحليفيه حزب القوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي، في الشوارع والساحات التي رفعت منها أطراف حراكية غير بعيدة عن تأثير السفارتين الفرنسية والأميركية وتحظى بدعم الصناديق والوكالات الأجنبية شعارات الحكومة غير السياسية أو حكومة التكنوقراط والحكومة الحيادية أو حكومة الاختصاص التي تلقفها الحريري في مباحثات التكليف والتأليف، بينما كرس وزير الخارجية الأميركية حصته من محاولة الركوب والتجيير لتحميل الانتفاضة هدفا معلنا هو إسقاط النفوذ الإيراني، وهو قصد بعبارته التخلص من حزب الله؛ أمنية تل أبيب وواشنطن الثابتة.
* كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات