ذو الفقار يوسف

ذو الفقار يوسـف  / لا ميديا -

من الوارد أن يقرأ قطيع العصرنة المتأمرك هذه الأحداث باعتبارها برهاناً على ديمقراطية اليانكي، رغم كونها باللافتة والفعل والحافز والهدف جاءت جحوداً بنتائج صندوق انتخابات لم تجرِ بما يشتهي مركب ومزاج ترامب، المسكوت عنه خلف هذه الفوضى هو الأخطر، فالانتخابات التي حضر فيها ترامب وبايدن لم يحضر فيها الشارع الأمريكي، ليس لأنه شارع منحاز لترامب جرى تزوير أصواته كما تحاول ماكينة ترامب القول، بل لأن كلا الجمهوري والديمقراطي ليسا خياراً له ولا تعبيراً عن أزماته العميقة التي يستميت كلاهما للقفز عليها ببرامج انتخابية تتعاطى معها بخفة وبالهروب إلى إثارة مخاوف الشارع حيال أمنه واستقراره بالحد الأدنى. أزمات تتعلق بتناقضات بنية النظام الأمريكي ذاته، وحلها يقتضي حل البنية الرأسمالية المعولمة لهذا النظام، وهذا ما تعمل الإدارات المتعاقبة للبيت الأبيض على تلافيه عبر صناعة الحروب الخارجية و»الإرهاب» والاستمرار في نهب ثروات بلدان التخوم وتمزيقها بمسميات شتى وتكبيلها بأغلال المديونيات، (ضف لذلك بعبع كورونا الجديد والمستجد وطفراته التي لم تلبث تتوالد ولعبة ابتكار اللقاحات).
أحداث واشنطن ناجمة عن غليان غير منظور في القاع العميق للمجتمع الأمريكي، غليان أعظم مما تكشف عنه مجريات الأحداث في الأيام الثلاثة الفائتة، بحيث يمكن القول إن تلك المجريات ليست إلا محاولة استباقية لاستفراغه على نحو منظم وضمن السيطرة، ومن ثم إعدام عوامله وأسبابه الحقيقية في خانة «تمرد ترامب على أعراف لعبة التداول الرئاسي ورفضه الإقرار بخسارته في الانتخابات... ولاحقاً رضوخه لها وانكفائه إلى ظل المشهد نهوضاً بدور آخر غير بعيد عن لعبة الاستقطابات هذه وصراع القط والفأر».
إن حجم الأزمات التي تضرب بنية نظام الهيمنة المعولم في المركز يساوي حجم الأزمات التي يعاني منها في التخوم، ومادامت أمريكا عاجزة عن كبح انهيار هيبتها وسطوتها في «الشرق الأوسط» وبروز محور المقاومة كقوة وازنة على نطاق جيوسياسي واسع في مقابل تصدع أدوات أمريكا الوظيفية في الخليج ووكيلها العبري. مادامت أمريكا عاجزة عن كبح كل تلك المتغيرات غير المرغوب فيها على مستوى تخومها الإمبراطورية، فإن غليان الداخل الشعبي الأمريكي سيسلك مسارب راديكالية خارج سيطرة المركز تهدد بتقويض النظام الرأسمالي المعولم ذاته، وستأخذ تعبيرات هذا الغليان منحى أكثر حدة وعصفاً مما هي عليه الحال في أحداث «اقتحام مبنى الكونجرس بواشنطن غضباً لترامب».
كم مواطناً أمريكياً من أصول أفريقية قضى برصاص الشرطة الأمريكية قبل «جورج فلويد» وبعده فيما بقيت وتبقى جذور العنصرية ضاربة في بنية وثقافة نظام الولايات المتحدة تتفرع وتمتد باسقة، وعوضاً عن استئصالها، لم توجه العدالة الأمريكية حتى جملة توبيخية لمسدس القتل العنصري إكراماً للضحايا، ولايزال القاتل يزاول حرية تهشيم الجماجم السمراء وإطلاق الكلاب عليها وتدخين السيجار ضاغطاً بركبته على أعناق «جورج فلويد وإخوته» بلا منغصات!
إن ذلك لا يعني أن طيف البشرات الأخرى من ملوني المجتمع الأمريكي بمنأى عن دخان ورصاص العنصرية، فهذه الأخيرة ليست إلا واحدة من تجليات الأزمات البنيوية العميقة التي تعصف بعموم المجتمع لجهة الحفاظ على شروط استجمام قلة كونية متخمة تقرفص بيخوتها المكتنزة باللذائذ على ظهر البشرية جمعاء، وشعب الولايات المتحدة ليــس استثناءً بينها كما قد يتوهم البعض.

أترك تعليقاً

التعليقات