عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
من رحم الخيانة المُعتِمة، وحول طاولة الشيطان ذاتها، التفّ بعضُ العربِ والمسلمينَ (المتآمرين) حول رجلٍ يرى في خرائط الدم فُرصاً، ويريد أن يبني مجده على أنقاض الأمم، فجاءَ إعلانُ دونالد ترامب عن مفاجأةٍ في نيويورك و"مبادرة لإنهاء الحرب في غزة"؛ مبادرةٍ تبدو كطوق نجاة أُلقيَ على عجلٍ لكيانٍ صهيوني يغرق في بحر من اللهب الذي أضرمه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه كشبحٍ في كواليس الأمم المتحدة هو: هل ما يقدمه ترامب هو حقاً "قُبلة الحياة" لغزة؟ أم أنها "قُبلة يهوذا" الغادرة التي تسبق تسليم آخر قلاع المقاومة إلى جلاديها؟
"المبادرة"، في وجهها المعلن، تبدو كفجرٍ طال انتظاره. حديثٌ عن وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب "إسرائيلي"، وإطلاق سراح المحتجزين، وقوة أمنية عربية تضمن الاستقرار، وأموال لإعادة إعمار ما سحقته آلة الحرب. إنها في الحقيقة "سيمفونية سلامٍ" يعزفها ترامب ببراعة، يعد فيها القادة العرب بأنه سيلجم طموحات نتنياهو، ويتعهد بألا تُضم الضفة الغربية، ويقدم نفسه كحمامة سلام حطّت أخيراً على غصن زيتون منهك. هي صورة تُسوَّق للعالم بأنها فرصة لإنقاذ الأرواح ووقف شلال الدم، وبصيص أملٍ كاذب يوهِم بأن "تاجر الموت" قد تحول فجأة إلى "صانع حياة"!

هندسة عكسية للرأي العام
في اللحظة التي كادت فيها العزلة الدولية أن تخنق الكيان الصهيوني، وبعد أن اهتزت صورته أمام العالم كـ"جيش لا يُقهر"، جاءت مبادرة ترامب لوقف "الحرب الأخرى" التي تخسرها حكومة الاحتلال كل يوم: حرب الصورة، وحرب الشرعية، وحرب الرأي العام العالمي.
فالمبادرة ليست خطة لإنقاذ غزة، بل هي عملية تجميل لوجه الجلاد، ومحاولة لسرقة النصر الأخلاقي الذي حققته فلسطين من بين أنياب الحصار. إن التحرك الأخير، الذي قُدِّم كخطة لإنهاء الحرب، لا يمكن قراءته بمعزل عن سياقه الحقيقي؛ فهو ليس عرضاً للسلام، بل مناورة سياسية أمريكية تهدف بشكل أساسي إلى تحقيق هدفين استراتيجيين: أولاً: احتواء موجة الدعم العالمي المتصاعدة للقضية الفلسطينية، وثانياً: تخفيف الضغط السياسي والدبلوماسي الخانق عن الكيان الصهيوني.
إضافة إلى ذلك، فإن الهدف الأكثر إلحاحاً لهذه المبادرة هو هدف إعلامي ونفسي، حيث تأتي كأداة لـ"الهندسة العكسية" للرأي العام المناهض للكيان الصهيوني؛ فالمبادرة تخلق وهماً بوجود أفق سياسي، وتجبر وسائل الإعلام العالمية على تحويل تركيزها عن جرائم الحرب "الإسرائيلية" إلى "جهود السلام" الأمريكية. إنها محاولة لامتصاص الغضب، وتبريد الحراك العالمي، وإعادة تعريف الصراع من "مقاومة ضد احتلال" إلى "نزاع معقد بين طرفين".

مؤامرة اليوم التالي
تحت ستار المصطلحات البراقة، مثل "وقف إطلاق النار" و"إعادة الإعمار"، تكمن الأهداف الحقيقية للمبادرة: تفكيك المقاومة، ونزع شرعيتها. إن أي خطة تستثني حركة حماس من "اليوم التالي" للحرب ليست خطة سلام، بل هي إعلان مؤامرة محبوكة التفاصيل. الهدف هو استبدال ترتيبات أمنية هشة تحت وصاية دولية وإقليمية، وبتمويل عربي، بالمقاومة المسلحة التي أثبتت فاعليتها. هذا يعني تحويل غزة إلى كيان منزوع السيادة، وتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى مجرد ملف إداري وأمني يُدفن فيه النضال تحت ركام التقارير الإنسانية، ويُستبدل فيه بصوت الرصاص المطالب بالحق صوت العملات التي تشتري الصمت والقبول بالأمر الواقع. إنها محاولة لتحقيق بالسياسة ما فشلت "إسرائيل" في تحقيقه بالقوة العسكرية.

الدور الوظيفي للأنظمة العربية والإسلامية
إن استدعاء الدول العربية والإسلامية للمشاركة في هذا الاجتماع ليس اعترافاً بأهميتها، بل هو توظيف لها في خدمة المشروع الأمريكي - "الإسرائيلي". فمجرد الحضور يمنح هذه المبادرة المشبوهة غطاءً سياسياً عربياً هي في أمسّ الحاجة إليه لتمريرها دولياً. الدور المطلوب من هذه الدول وظيفي بحت: أولاً: توفير الشرعية السياسية للخطة، وثانياً: ضخ التمويل اللازم لإعادة الإعمار وإدارة القطاع أمنياً بعد القضاء على المقاومة، وثالثاً: تحمل العبء السياسي والأمني لضبط غزة نيابة عن "إسرائيل". إنها محاولة صريحة لتوريط العرب في تصفية قضيتهم المركزية. فكيف يمكن تصديق رجلٍ تتراقص مواقفه على إيقاع مصالحه الشخصية؛ رجلٌ يرى في غزة عقاراً لا وطناً لشعب؟!
الأخطر من كل ذلك هو التوقيت؛ فبينما كانت فناجين القهوة تُرفع احتفاءً بالمبادرة المزعومة، كانت آلة الموت، بتنسيق أمريكي معلن، توجه ضرباتها إلى غزة.
إن ما يُدمي القلب هو هرولة بعض "القادة" إلى "وليمة ترامب". هل ذهبوا لاستكشاف النوايا، أم لمحاولة التأثير في القرار الأمريكي فعلاً؟ الحقيقة أن ترامب لا يقيم لهم وزناً في مسرح السياسة الدولية، وغالباً ما يتحول الحضور إلى غطاء، والمشاركة إلى مباركة. إن اجتماعهم حوله، حتى لو كان مشروطاً، يرسل رسالة إلى العالم بأن "الحل قادم"، وأن العرب جزء منه؛ بينما الحل الحقيقي الذي يُطبخ في الخفاء هو تصفية القضية الفلسطينية بأيدٍ عربية وتمويل عربي.

سراب الدولة.. التطبيع أولاً
هذه التحركات المفاجئة لا تأتي صدفة؛ فخلف العناوين المعلنة عن "وقف الحرب"، يكمن هدف آخر أكبر: صفقة التطبيع السعودي – "الإسرائيلي". غزة هنا ليست سوى ستار. أما المسرح الحقيقي فيُقام في مكان آخر، حيث تُعقد "الجائزة الكبرى" التي تتجاوز حدود الدمار الحالي. فالحديث عن "مسار لدولة فلسطينية" ضمن المبادرة يبدو أقرب إلى السراب؛ طريقاً يُرسم بالحبر السياسي لا بالحقيقة، فقط لتُفتح عبره أبواب التطبيع مع الرياض، الصفقة التي يعتبرها ترامب إرثه الحقيقي.
في قلب هذا المشهد، تُلقى الكرة في ملعب الفلسطينيين أنفسهم بطريقة ملتوية. فمن خلال عرض "مشاركة شكلية" وأدوار محدودة على السلطة الفلسطينية، يتحول "الحل" إلى أداة لإرباك الداخل الفلسطيني. تُوضع السلطة أمام خيارين أحلاهما مُرّ: إما رفض المبادرة والظهور بمظهر المعرقل للسلام، وإما قبولها والدخول في فخ محكم، فتصبح بذلك شاهد زور على خطة تهدف لتصفية المقاومة وتمرير صفقات إقليمية على حساب القضية.
إنها -إذن- لعبة مزدوجة ومتقنة: وعود براقة من الخارج، ومصائد خفية تُنصب في الداخل. في النهاية، تُستَخدم القضية الفلسطينية مرتين في اللعبة نفسها: مرة كـ"جسر" لتبرير صفقة التطبيع الكبرى، ومرة كـ"قنبلة" لتفجير البيت الفلسطيني من الداخل.

أترك تعليقاً

التعليقات