عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في كواليس السياسة التي لا تهدأ، وحيث تُصنع القرارات خلف أبواب مغلقة، تتوالى الرسائل الأمريكية إلى بغداد بوتيرة متسارعة، حاملةً معها لهجة لم تعد تحتمل التأويل. فبعد اتصال «التبليغ الأخير» الذي تلقاه وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي من نظيره الأمريكي بيت هيغسيث، جاء تحذير آخر، أكثر مباشرة وخطورة، حطّ رحاله في مكتب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني نفسه، حاملاً إياه المبعوث الأمريكي. لم يعد الأمر مجرد اتصال هاتفي عابر، بل تحول إلى سلسلة من الإنذارات التي تضع العراق في قلب عاصفة مرتقبة، ليس كلاعبٍ رئيسي بالضرورة، بل كساحةٍ يُطلب منها أن تلزم الحياد قسراً، وأن تضبط حركة فصائلها كما تسميها أمريكا. السؤال الذي يطرح نفسه هنا ليس فقط عن طبيعة العمليات العسكرية التي تلوّح بها واشنطن، بل عن معنى أن يتم إبلاغ دولة ذات سيادة بأن عليها أن تقف متفرجة على ما سيحدث في جوارها، وربما على أرضها. هل هي تحذيرات؟ أم أنها مجرد إخطارات روتينية؟ أم أن واشنطن أرادت أن تقول لبغداد وبقية العواصم إن مرحلة جديدة وحاسمة تنتظر المنطقة؟

سيناريوهات النار..ولبنان في الصدارة
عندما تتحدث الولايات المتحدة عن «عمليات عسكرية مرتقبة»، تتجه الأنظار تلقائياً نحو عدة جبهات، لكن التحذير الأخير الذي نُقل للسوداني حسم الجدل ووضع لبنان في مقدمة الاحتمالات. لم يعد الأمر مجرد تكهنات، فالرسالة الأمريكية كانت واضحة: «إسرائيل» تستعد لعملية واسعة ضد حزب الله، وأي تدخل من الفصائل العراقية لدعم الحزب سيُقابل برد «إسرائيلي» قد يطال العمق العراقي، وبضوء أخضر أمريكي. هذا السيناريو يكتسب زخماً خاصاً لأن أي مواجهة مع حزب الله ستستدعي حتماً ردود فعل من الفصائل العراقية الحليفة له، وهو ما يفسر سبب التحذير الأمريكي المباشر والمزدوج لبغداد، مرة عبر وزارة الدفاع، وأخرى على مستوى رئاسة الوزراء. فهل وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة، حيث ترى واشنطن و»تل أبيب» أن ضربة استباقية أصبحت ضرورة لكسر شوكة الحزب؟ لكن، هل تملك إدارة أمريكية، مهما بلغت قوتها، رفاهية إشعال حرب إقليمية جديدة بنتائج غير محسوبة؟

ضربة أم حرب شاملة؟ ماذا يُحاك؟
السيناريو الثاني، والذي لا يقل خطورة، هو أن تكون العمليات موجهة ضد إيران مباشرة. لم يعد سراً أن البرنامج الصاروخي الإيراني هو الهاجس الأكبر لواشنطن وحلفائها. فهل قررت الولايات المتحدة، ربما بالتنسيق مع «إسرائيل»، أن الخيارات الدبلوماسية قد استُنفدت وأن الوقت قد حان لعمل يستهدف المنشآت الصاروخية الإيرانية؟ أو ربما يكون الهدف أكثر رمزية، كاستهداف شخصيات بارزة في إيران لبعث رسالة. هذا الخيار ايضاً يبدو محفوفاً بمخاطر أكبر، فإيران أكدت عدة مرات أن أي خطأ في الحسابات الأمريكية والصهيونية لن يمر مرور الكرام، بل قد يشمل إغلاق مضيق هرمز أو استهداف القواعد الأمريكية مباشرة، مما يجر المنطقة بأسرها إلى حرب شاملة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن التحذير الأمريكي الأخير للعراق يصبح أكثر منطقية، فالعراق هو الساحة الأكثر هشاشة والأقرب إلى إيران، وأي شرارة هناك قد تحرق الأخضر واليابس.
في هذا الصدد وفي الأيام الأخيرة بدا واضحاً أن هناك تحرّكات قيادية غير عادية داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية؛ زيارات ميدانية متكررة لقادة الصفّ الأول إضافةً إلى مناورات جوية وبحرية مفاجئة. هذه التحركات لا تُقرأ دائماً كإظهار قوة فقط، بل يمكن تفسيرها أيضاً كاستعداد احترازي أو اختبار لقدرات الردع تحسبًا لأي ضربة استباقية محتملة وهو ما يفسّر بدوره إعلان واشنطن وإبلاغها لبغداد كي تبقى خارج الحسابات.

العراق في عين العاصفة.. هل الهدف هو الداخل؟
يبقى هناك احتمال ثالث، وهو أن تكون العمليات المرتقبة تستهدف الداخل العراقي نفسه. فالتحذير من «تدخل الفصائل» قد لا يكون مجرد إجراء احترازي، بل تمهيداً لعملية تستهدف هذه الفصائل تحديداً، والتي تعتبرها واشنطن خارجة عن سلطة الدولة وتهديداً لمصالحها. وهنا يتضح التناغم بين التحذيرين؛ فبينما ركز اتصال وزير الدفاع على منع التدخل في «عمليات أمريكية بالمنطقة» بشكل عام، جاء تحذير المبعوث للسوداني ليخصص التهديد بـ»دعم حزب الله» تحديداً، مما يرفع مستوى الضغط على الحكومة العراقية لضبط هذه القوى. هذا السيناريو هو الأكثر إحراجاً لحكومة بغداد، لأنه يضعها في مواجهة مباشرة مع مكونات سياسية وعسكرية فاعلة على الأرض، ويجعلها تبدو عاجزة عن حماية سيادتها.

رسائل واشنطن في توقيت سياسي حرج
قراءة هذه التحذيرات بمعزل عن توقيتها السياسي الدقيق قد تفوّت علينا جوهر الرسالة. فالضغط الأمريكي المتصاعد يأتي في لحظة عراقية بالغة الحساسية؛ مرحلة ما بعد الانتخابات، حيث تتشابك الخيوط وتُرسم خرائط التحالفات الجديدة، فيما يبقى مصير رئيس الوزراء محمد شياع السوداني معلقًا بين بقاء محتمل ورحيل غير محسوم. واشنطن تدرك أن هذه اللحظة هي اللحظة الذهبية للتأثير وتريد ان توصل رسالة أن أي رئيس وزراء قادم، وأي ائتلاف حاكم مستقبلي، يجب أن يضع خطوطها الحمراء في صلب حساباته.
المشهد العراقي ليس منفصلًا عن الإيقاع الإقليمي؛ فوسائل الإعلام كشفت عن زيارة مرتقبة لبنيامين نتنياهو إلى واشنطن خلال الأسابيع القادمة، وهي الخامسة منذ عام 2023، زيارة تحمل في طياتها أكثر من مجرد بروتوكول سياسي. إنها زيارة في توقيت ملتهب، حيث تتقاطع التحذيرات الأمريكية لبغداد مع التنسيق العميق بين واشنطن و»تل أبيب»، وكأن الرسائل التي تُلقى على طاولة السوداني تجد صداها في البيت الأبيض، حيث تُناقش ملفات غزة وإيران وحزب الله. هنا يصبح التوقيت نفسه رسالة: واشنطن لا تكتفي بالتحذير، بل تفتح أبوابها لحليفها «الإسرائيلي» لتوحيد الإيقاع قبل أن تُقرع طبول المرحلة المقبلة.
بدت المنطقة وكأنها مسرح تتقاطع فيه خطوات متزامنة؛ وزير الخارجية التركي يصل إلى طهران، وفي التوقيت ذاته وفد سعودي يحط هناك، وكأن العاصمة الإيرانية تحولت إلى نقطة التقاء غير معلنة. وفي دمشق، رسالة غامضة تُنقل عبر مبعوث أمريكي إلى الجولاني، تحمل كلمات ثناء ودعم بأنه «سيصبح قائداً عظيماً وأن أمريكا ستدعمه»، لكنها تثير أكثر مما تجيب: لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الصيغة؟ هل هي مجرد مجاملات دبلوماسية لرجل صُنِّف سابقاً كإرهابي، أم إشارات إلى دور جديد يُرسم خلف الكواليس؟ وفي زاوية أخرى، يطل خبر ترشيح رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، كأنه خيط إضافي في شبكة معقدة لا يُعرف أين تنتهي. هذه التحركات، مهما بدت عادية في ظاهرها، تحمل في طياتها أسئلة مغلقة حول مستقبل المنطقة، وكأن كل هذه الزيارات ليست سوى مقدمات لعاصفة أكبر تُدار تفاصيلها في غرف بعيدة عن الأضواء. هكذا يصبح الغموض نفسه جزءاً من المشهد: تصريحات علنية لا تكشف إلا القليل، وزيارات متزامنة توحي بالكثير، ورسائل تُلقى في العلن بينما ما يُقال في السر يبقى طي الكتمان. والنتيجة أن أننا والقارئ على حدٍ سوا، مثل (منطقة الشرق الأوسط) نفسها، نقف أمام سؤال بلا إجابة: ما الذي يُحاك حقاً في هذه الأيام؟
في كل الأحوال، سواء كانت الضربة موجهة للبنان، أو لإيران، أو للفصائل في العراق، فإن بغداد قد تلقت الرسالة بوضوح: «هذا تبليغ أخير لكم... وأنتم تعرفون جيداً كيف سيكون رد الإدارة الحالية». رسالةٌ وصلت عبر قناتين، عسكرية ودبلوماسية، لتغلق كل منافذ الشك. ويبقى السؤال الأكبر: كيف سترد بغداد؟ وهل تملك أصلاً ترف الاختيار؟ فالتبليغات التي وصلت إلى أعلى المستويات في الحكومة العراقية ليست مجرد أخبار عابرة؛ إنها مؤشرٌ على مرحلة حساسة قد تُعيد رسم خرائط النفوذ في «الشرق الأوسط».

أترك تعليقاً

التعليقات