حرب استنزاف أحادية الجانب .. لبنان بين تهديدات واشنطن وضربات «تل أبيب»  
				
            - عثمان الحكيمي السبت , 25 أكـتـوبـر , 2025 الساعة 1:25:31 AM
- 0 تعليقات
							
عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في مواجهة اشتداد الأحداث وتوتر الأوضاع الأمنية، يقف لبنان اليوم على مفترق طرق حاسم؛ فبينما تتظاهر بيروت بالهدوء، تحصي ضلوع جبال الجنوب الضربات. وفي الوقت الذي يُقصف فيه الجنوب، تبدو السماء مشدودة كوترٍ بين صوتين صارخين: صدى تحذيرٍ أمريكي يحمل في طياته تهديداً مباشراً بقدوم لحظة الفصل، وصدى مسيّرات وصواريخ "إسرائيلية".
الدولة اللبنانية، كالعادة، في المنتصف؛ دولةٌ بلا رأس ولا أطراف، وجسدٌ سياسي مشلول يتمسك بخيط رفيع، يخاف أن يقول "نعم"، ولا يجرؤ في الوقت نفسه أن يقول "لا". يستمع أكثر مما يتكلم، وينتظر إشارة من السماء أو معجزة من تحت الأرض، وكلاهما أبعد من الخيال. أما حزب الله، فيتقن لعبة الصمت؛ فهو صامتٌ يعرف أن الحديث عن السلاح هذه الأيام يشبه فتح جرحٍ في زمن النزيف. يراقب المشهد ويبتسم حين يسمع التهديد، ويشد قبضته أكثر كلما اقترب اللسان الأميركي "لبراك" من الميكروفون.
"إسرائيل"، من ناحيتها، لا تؤمن بالبلاغة السياسية ولا تضيّع الوقت؛ فلغتها الوحيدة هي النار. تجرّب صواريخها على الجنوب كما لو أن الأرض ميدان تدريب، فجنوب لبنان بالنسبة لها أصبح مجرد "ميدان رماية". تقول إنها تدافع عن نفسها، بينما تختبر قدرة اللبنانيين على الصمت. وبين واشنطن التي تضغط، و"تل أبيب" التي تضرب، وبيروت التي تتلعثم، وحزب الله الذي يصمت عن كل ما يجري من تجاوزات وانتهاكات.. يبقى السؤال واقفاً على الركام: من الذي يملك القرار فعلاً؟
الجواب لا يحتاج إلى تحليل طويل ولا لعبقرية سياسية؛ ففي هذا البلد، لا يمكن عزل القرار عن التأثيرات الخارجية، ولا يتم بعيداً عن موازين القوة العسكرية والسياسية داخل البلاد. لبنان اليوم هو ملعب للتقاطعات الإقليمية والدولية، حيث تُصنع القرارات الكبرى بعيداً عن المكاتب الرسمية، ويُرسَم مصير البلد في سماء الصراعات المتشابكة.
المبعوث الأمريكي "براك" يعزف و"إسرائيل" تضرب
عقب تصريحات المبعوث الأمريكي براك، يُطرح سؤال واحد بصوت خافت حيناً وصاخب أحياناً: هل هو فجر الحل أم نذير اشتعالٍ لا يُبقي ولا يذر؟ لقد ألقى المبعوث الأمريكي حجراً ثقيلاً في مياه السياسة الراكدة، مطلقاً تحذيراً بكلماتٍ عالية السقف: "تردُّدكم في نزع سلاح حزب الله قد يدفع "إسرائيل" للتصرف وحدها".
وكأن الرجل جاء ليذكّر اللبنانيين بأنهم يعيشون على فوهة بركان لا يهدأ، فلم تكن كلماته مجرد مناورة دبلوماسية عابرة؛ فما كاد صدى صوته يختفي، حتى دوّت الانفجارات في عمق الجنوب اللبناني. غارات "إسرائيلية"، قالت "تل أبيب" إنها استهدفت "بنى تحتية لحزب الله"، لترسم في سماء لبنان خطوطاً نارية تؤكد جدية التحذير. كلّ الأطراف ترفع الصوت، والناس وحدهم يطوون أيامهم على هدير المسيّرات ووعودٍ تُكتب بالحبر الأميركي وتُمحى بالنار "الإسرائيلية". في هذا المشهد المترنّح، تبدو بيروت كمن يمشي على حبل: إن تحركت سقطت، وإن توقفت خنقها الانتظار.
إن ما يحمله "براك" في جعبته، والذي يسميه "خارطة طريق"، هو خطة تبدو في ظاهرها مغرية، لكنها في باطنها معقدة كتعقيدات الشرق الأوسط نفسه؛ فالعرض يربط بشكل مباشر بين نزع سلاح الحزب وبين حزمة من "المقايضات" الاقتصادية والسياسية.
شهية "إسرائيل".. تفكيك المقاومة وتدجين لبنان
على الضفة الأخرى من الحدود، لا تنتظر "تل أبيب". تتصرف "إسرائيل" وكأنها تحمل تفويضاً إلهياً بضرب من تشاء، وقتما تشاء، حيث تبدو تصريحات "براك" الأمريكية مجرد غطاء دبلوماسي لقرار ميداني تم اتخاذه مسبقاً. فبينما كانت واشنطن تتحدث، كانت "إسرائيل" تضرب، مرسلةً رسائلها بالنار لا بالحبر، ومفادها: "ما لا تفعله دبلوماسيتكم، ستنجزه صواريخنا".
هذه الاستراتيجية تخدم هدفين متزامنين: الأول، خارجي، وهو استنزاف لبنان واختبار أعصابه في معركة باردة تستهلك اقتصاده وتعمّق انقساماته، مستغلةً هشاشته الداخلية كفرصة للمغامرة المحسوبة. والثاني، داخلي، حيث يستخدم بنيامين نتنياهو لهيب الجنوب وقوداً لمعاركه الانتخابية، مقدماً نفسه للشارع "الإسرائيلي" كقائد حاسم لا يتردد في استخدام القوة.
لكن ما يجب إدراكه أن المطالب "الإسرائيلية" الظاهرة ليست سوى قمة جبل الجليد. فشهية "تل أبيب" تتجاوز مجرد تفكيك البنية العسكرية لحزب الله. في العقل الاستراتيجي "الإسرائيلي"، نزع السلاح ليس هو الهدف النهائي، بل هو الخطوة الأولى نحو إعادة تعريف العلاقة مع لبنان بالكامل. إنه مقدمة ضرورية لجرّ بيروت إلى طاولة "ترتيبات أمنية" جديدة، تُنشئ واقعاً شبيهاً بالتنسيق الأمني مع "سلطة الشرع". الهدف الأبعد هو تطبيع قسري يُفرّغ لبنان من حزب الله ومقاومته، ويدخله إلى فلك السلام البارد الذي تريده "إسرائيل".
حزب الله وحرب الاستنزاف الصامتة
هل يدرك حزب الله أنه يخوض اليوم حرب استنزافٍ من طرفٍ واحد، من قبل "إسرائيل"؟ فالسيادة التي تُنتهك لبنانية، والأرض التي تُقصف لبنانية، والكوادر التي تُغتال من خيرة كوادره. كل الفواتير تُدفع من الرصيد اللبناني، بينما العدو يدير معركته بأقل التكاليف، محولاً الجنوب إلى ساحة اختبار لأسلحته وأعصاب خصومه.
إن الرهان على أن صبر الداخل لا ينفد هو قراءة خاطئة للمشهد، فالوضع الحالي لم يعد حالة "لا حرب ولا سلم"، بل هو موت بطيء يضرب في صميم بيئة شعبية منهكة. وهنا يواجه حزب الله الحقيقة الأكثر مرارة: قوة الردع التي بناها بالدم والنار تتآكل في حربٍ لم يعد فيها العدو يخشى الرد. فما قيمة البنادق إن بقيت صامتة والسماء تُستباح؟
يُقال في كتب التاريخ إن الصبر فضيلة، لكنه لم يذكر متى يتحول إلى خطيئة. وهل من الحكمة أن تستمر معادلة يكون فيها الفعل لجهة واحدة، ورد الفعل مجرد صدى صامت؟ هناك أشياء تفقد قيمتها حين لا تُستخدم في أوانها، كالبندقية التي تُعلّق على جدار بينما اللصوص في الدار. وزنها يبقى، لكن معناها يرحل. إن أثقل ما يمكن أن يحمله المرء ليس السلاح، بل هو السؤال الذي يتردد في ضميره كل ليلة: "ماذا كان عليّ أن أفعل؟".
							 
            
                               .jpg) 
					
                
            
   

 
								 
								 
								 
								 
								







المصدر عثمان الحكيمي
زيارة جميع مقالات: عثمان الحكيمي