عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
بينما كانت أوروبا تُعد نفسها لمرحلة جديدة من الاستقرار النسبي، منشغلةً بمواجهة تداعيات اقتصادية واجتماعية متراكمة خلّفتها جائحة كورونا، مثل الركود الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم أزمة سلاسل الإمداد، اندلعت الحرب الروسية - الأوكرانية فجر 24 شباط/ فبراير 2022، لتشكل صدمةً زعزعت ركائز النظام الدولي، واخترقت مباشرةً شرايين القارة العجوز.
فهذه الحرب، التي تُعدّ الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ما زالت مستعرة، مخلفةً وراءها تداعيات داخلية وإقليمية ودولية عميقة، ودفعت أطرافاً متعددة، من روسيا والولايات المتحدة، مروراً بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وصولاً إلى مؤسسات دولية أخرى، إلى الانخراط المباشر أو غير المباشر في مسارها.
وقد اندلعت هذه الحرب في فبراير 2022 بقرار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما زالت بعد مرور سنوات تفتقر إلى أفق سياسي واضح لإنهائها. وقد استندت موسكو في تبرير عمليتها العسكرية إلى ما اعتبرته سياسات عدائية من حكومة كييف، وخطراً متنامياً ناجماً عن احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو ما عدّه الكرملين تهديداً مباشراً لعمق روسيا الاستراتيجي ومصالحها طويلة الأمد.
في المقابل، تعاملت الولايات المتحدة مع الحرب باعتبارها فرصة استراتيجية، فحوّلتها إلى صراع بالوكالة يهدف إلى إضعاف موسكو، من خلال بناء تحالفات مناوئة، وتوظيف أدوات الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي والاستخباراتي. وقد أكدت وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2022 هذه الرؤية؛ إذ أشارت صراحةً إلى الحرب الأوكرانية، واعتبرت روسيا تهديداً رئيسياً لاستقرار القارة الأوروبية والنظام الدولي برمّته.

أوكرانيا.. من الفضاء الأمني الروسي إلى بؤرة أزمة أوروبية عالمية
جاءت الحرب الأوكرانية كشرارةٍ أعادت صياغة أولويات أوروبا السياسية والأمنية، حاملةً تحديات غير مسبوقة، ومجدّدةً في الذاكرة الأوروبية مخاوف الحرب الباردة وصراعات القرن الماضي. ومنذ الأيام الأولى، فرض هذا الصراع على العواصم الأوروبية ومؤسساتها، من برلين إلى باريس وبروكسل، واقعاً سياسياً وأمنياً جديداً وضع القارة بين مطرقة التحديات الأمنية وسندان الصدمات الاقتصادية والاجتماعية. هكذا تحوّلت الحرب إلى ملف دائم على طاولة صانعي القرار، وأعادت أوروبا إلى مركز أزمة عالمية تعيد رسم مستقبلها السياسي واستقلالها الأمني.
إن هذه الحرب تمثل تحولاً جوهرياً يحمل تبعاتٍ آنية، مرحلية، وطويلة الأمد على خريطة القارة، وهي تأثيرات ستمتد بالضرورة إلى المناطق والدول المرتبطة بأوروبا، بما في ذلك «الشرق الأوسط».
منذ الحرب العالمية الثانية، اعتُبرت أوكرانيا جزءاً من الفضاء السياسي والأمني لروسيا. وعلى هذا الأساس، ورغم كونها دولة مستقلة تمتلك حق التصويت في الأمم المتحدة، كانت مكانة أوكرانيا في البنية السياسية والأمنية للاتحاد السوفييتي بالغة الأهمية؛ إذ عُدّت عنصراً أساسياً في هيكل النظام السوفييتي. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن بعض قادة الاتحاد السوفييتي، مثل خروتشوف، كانوا من أصول أوكرانية، وهو ما يُعدّ مؤشراً إلى الترابط العميق بين روسيا وأوكرانيا في تلك الحقبة.

 أزمة النظام الأوروبي: استراتيجيات الاحتواء والتحجيم
في الحقيقة، الحرب المستمرة في أوكرانيا لها تأثيرات واسعة على النظام السياسي والأمني لأوروبا. تشمل هذه التأثيرات زيادة التوترات في العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وارتفاع موجات الهجرة واللجوء، وتأثيراً ملحوظاً على علاقات الاتحاد الأوروبي مع روسيا، وتهديداً لأمن دول أعضاء الاتحاد الأوروبي. بشكل عام، تتجلى تأثيرات الحرب في أوكرانيا على العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي في العقوبات الاقتصادية، واستمرار التوترات، والانقسامات الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي، وتأثيرها على العلاقات الأمنية. أدت هذه التأثيرات إلى إضعاف العلاقات والتعاون بين الطرفين.
انطلاقاً من ذلك، يمكن تحليل حرب أوكرانيا من زوايا وأبعاد متعددة. وإذا اعتبرناها حرباً بالوكالة بين روسيا والولايات المتحدة (وفقاً لتقديري التحليلي)، فإن المستويات الدولية والإقليمية ستكون الأكثر فاعلية في تفسيرها.
ومن المفاهيم المفيدة في هذا الإطار مفهوم «استراتيجية احتواء روسيا»، التي تهدف إلى تقييد النفوذ الروسي ضمن نظام تقوده الولايات المتحدة. تتمثل الاستراتيجية في مواجهة روسيا عبر أربعة محاور متكاملة. فعلى الصعيد السياسي، تركّز الجهود على تقليص نفوذ موسكو دبلوماسياً، من خلال تعزيز القطيعة بينها وبين الدول المنبثقة عن الاتحاد السوفييتي السابق، وتوسيع نطاق عزلتها على الساحة الدولية.
وفي المجالين الأمني والعسكري، تسعى هذه الاستراتيجية إلى إضعاف العمق الاستراتيجي الروسي، عبر توسيع حضور حلف الناتو شرقاً، ونشر منظومات الدرع الصاروخية، وتعزيز البنى التحتية العسكرية والأمنية في الدول المجاورة لروسيا.
أما ثقافياً وأيديولوجياً فهي تستهدف الحدّ من النزعة التوسعية والطابع السلطوي للنظام الروسي، سواء داخل فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي أم على المستوى الدولي، مع الدفع باتجاه ترسيخ نموذج التنمية الغربي.
وأخيراً، على الصعيد الاقتصادي، تركز الاستراتيجية على إضعاف الاقتصاد الروسي، باعتباره الركيزة الأساسية لسياسات موسكو المناهضة للهيمنة الغربية، وذلك من خلال فرض العقوبات واستخدام أدوات الضغط المختلفة.
من الطبيعي أن تلقي الحرب بالوكالة في أوكرانيا واستراتيجية احتواء روسيا بظلالها العميقة على النظام السياسي والأمني في أوروبا، بحكم القرب الجغرافي والطابع الأوروبي للحرب. ويمكن اعتبارها «أزمة وجودية» سيكون لها تأثيرات طويلة الأمد على النظام السياسي والأمني الأوروبي. وقد بدأت هذه التحولات بالفعل في تغيير استراتيجيات الدول الأوروبية، والاتحاد الأوروبي، وحلف «الناتو»، ما جعل أوروبا أكثر عسكرة وجيوسياسية.
وباختصار: يمكن القول بأن من أبرز نتائج حرب أوكرانيا تصاعد النزعة العسكرية في أوروبا. فقد دفعت هذه الحرب العديد من الدول الأوروبية، من دول البلطيق الصغيرة إلى ألمانيا، نحو مزيد من التسلح. وقرار الحكومة الألمانية زيادة ميزانيتها العسكرية وتعزيز قدراتها يعد مثالاً واضحاً على ذلك. ومن المرجح أن تشهد أوروبا في المستقبل تصعيداً ملحوظاً في العسكرة وتدعيماً قوياً لأطر الأمن. وهو ما سيؤثر بدوره على المكونات والسمات الهوياتية والثقافية والاقتصادية للقارة، ويعيد تشكيل معادلة القوة في أوروبا وعلاقاتها مع الفاعلين الدوليين.
أما التأثير الأهم فيتعلق بطبيعة النظام السياسي والأمني الأوروبي نفسه. فمنذ الحرب العالمية الثانية، ظل هذا النظام تحت تأثير الولايات المتحدة، التي كانت لاعباً رئيسياً في أمن وسياسة أوروبا. ورغم محاولات متكررة لبناء نظام أمني وسياسي أوروبي مستقل، حالت عقبات عدة دون تحقيق هذا الهدف. ومع كل التقدم في مسار الاندماج الأوروبي، ما زال وضع استراتيجية سياسية وأمنية موحدة للقارة موضع نقاش، ويبدو أن «حرب أوكرانيا 2022» جعلت هذا الهدف أكثر غموضاً.

تشابكات عابرة للقارات.. «الشرق الأوسط» في قلب التحولات
يمكن القول بأن التغيرات المستمرة في النظام الأوروبي لم تعد محصورة ضمن حدود القارة، بل تمتد إلى مناطق حساسة، مثل «الشرق الأوسط». مع تصاعد الحرب والتطورات في أوكرانيا، أصبحت روسيا تعيد النظر في تحالفاتها الإقليمية، وتبحث عن أدوات لتعزيز نفوذها، مستفيدةً من علاقاتها التاريخية والاستراتيجية مع قوى إقليمية وحركات في كل من «الشرق الأوسط» والقارة الأفريقية (إلا أن تلك المحاولات لم تنجح بشكل ملحوظ، بسبب الحسابات المعقدة للدولة العميقة الروسية، التي تحسب خطواتها كما لو كانت تتدرب على رقصة قياصرة قديمة). من جهةٍ أخرى تحاول أوروبا الحفاظ على مصالحها في المنطقة، رغم انشغالها بقضاياها الداخلية والتحديات الأمنية.
في المقابل، وفيما يخص دول المنطقة، تسعى بعض الدول العربية إلى مراجعة علاقاتها التقليدية مع أوروبا، التي أصبحت منشغلة بشكل أكبر بأمنها وحدودها الشرقية، ما يدفع العديد منها لاعتماد سياسات أكثر براغماتية وتوازناً، بالانفتاح على شركاء جدد مثل الصين. يتجلى هذا في تنويع مصادر التسلح والاستثمار، والسعي لتفادي الاصطفاف مع أي طرف، حفاظاً على المصالح الوطنية وإيجاد مساحات للمناورة وسط تغير موازين القوى العالمية.
التوترات المتزايدة بين روسيا والغرب لا تقتصر تداعياتها على ساحات الصراع الكبرى كأوكرانيا، بل تلقي بظلالها الثقيلة على قضايا منطقتنا، من أمن الطاقة والملاحة في البحر الأحمر إلى مستقبل النزاعات والصراعات. في ظل حالة السيولة الجيوسياسية هذه، تزداد مخاطر تفاقم الأزمات في «الشرق الأوسط». كل ذلك يؤكد أن «الشرق الأوسط» اليوم أمام مشهد دولي متغير، إذ إن التصعيد والتداخل بين القوى العظمى يعيدان رسم خرائط النفوذ، ويجعلان فهم تداعيات الحرب في أوروبا شرطاً أساسياً لفهم استراتيجيات المنطقة وتوازناتها المستقبلية.

تعاظم الدور الأمريكي في الخارطة السياسية والأمنية الأوروبية
تحت تأثير حرب أوكرانيا 2022، تشهد أوروبا تحوّلاً دراماتيكياً تتقاطع فيه معادلات الأمن، السياسة، الاقتصاد، الطاقة، الثقافة، الهوية، والعلاقات الجيوسياسية؛ ما يستدعي قراءة معمقة برؤية تحليلية واستراتيجية تتداخل فيها هذه الأبعاد لتشكل ملامح جديدة للمشهد الأوروبي، لاسيما مع تعاظم اليد الأمريكية في إدارة خارطة القارة بشكل غير مسبوق. لم تعد أوروبا اليوم ذلك الفاعل المستقل القادر -كما في السابق ولو بحدّه الأدنى- على رسم استراتيجية منفصلة تعكس مصالحها الخاصة، بل باتت ملامح القرار الأوروبي تُصاغ في واشنطن قبل بروكسل، في مشهد يشي بصعود «اللحظة الأمريكية» على حساب السيادة الأوروبية.
منذ اللحظة الأولى للصراع، بدا واضحاً أن تداعياته لن تقف عند حدود أوكرانيا، بل ستعيد رسم هندسة التحالفات وجدول الأولويات الأمنية بجميع العواصم الأوروبية. عززت الولايات المتحدة نفوذها مستغلة هشاشة الموقف الأوروبي، لترسم الخطوط الحمراء وتحدد سقف حركة القادة الأوروبيين.
في المقابل، يبرز التساؤل: هل سيستمر الطموح التقليدي لبناء نظام أمني أوروبي موحّد تحت هيمنة الناتو ووصاية البيت الأبيض؟ أم أن الاتحاد الأوروبي سيرضى بأن يبقى كياناً سياسياً يبحث عن هوية جديدة ودور أقل وزناً في المسرح الدولي؟!
لعل هذا التحول البنيوي يُعزى أولاً إلى طبيعة الحرب الروسية الأوكرانية نفسها، التي كشفت ضعف أدوات الردع الأوروبية، وضيق الهامش السياسي أمام الاتحاد. فبينما كانت موسكو تعتمد على إرثها التاريخي وأهدافها الجيوسياسية، استثمرت الولايات المتحدة الأزمة لتدشين أكبر حملة احتواء وعزل سياسي ضد روسيا منذ عقود. نجحت واشنطن عبر فرض العقوبات وتوجيه بوصلة حلفائها في خنق الاقتصاد الروسي، وتكريس صورة موسكو كتهديد وجودي لأمن أوروبا، ما دفع الدول الأوروبية إلى سباق تسلح غير مسبوق وارتفاع غير معهود في ميزانيات الدفاع.
في الوقت ذاته، انعكس التهميش الروسي وقعاً مدوياً على مستقبل العلاقات الدولية، ليس في أوروبا فقط، بل وفي «الشرق الأوسط» أيضاً. فمنذ سقوط مشروع «البيت الأوروبي المشترك»، وجدت روسيا نفسها مطوقة بحزام من التحالفات الغربية الصلبة، وخسرت تدريجياً مواقع نفوذها وصوتها في معادلات الأمن الأوروبي. هذا الواقع الجديد فرض على موسكو إعادة تموضعها الاستراتيجي، وأثّر مباشرة في علاقاتها مع قوى إقليمية كإيران وتركيا ودول عربية فاعلة، بينما استفادت أوروبا جزئياً من إعادة ترتيب أوراق أمن الطاقة؛ لكنها دفعت بالمقابل فاتورة باهظة من صدمات الأسعار وتعاظم الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي.
في الختام، هذا كله جعل من أزمة أوكرانيا نقطة تحول مركزية تضيء مسار النظام السياسي والأمني الأوروبي لعقود قادمة. ضمن هذا السياق المضطرب، تكتسب سلسلة المقالات المقبلة أهميتها القصوى في تحليل الجوانب المحورية للصراع، وإبراز الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا، وتحليل تداعياتها الأمنية والاقتصادية، ومتابعة تطورات الاتحاد الأوروبي في مواجهة الضغوط الأمريكية والتحديات الروسية.
سنسعى في كل جزء إلى تسليط الضوء على تفاعلات القوى الدولية وامتداد تأثيرها إلى منطقتنا العربية، في قراءة تضع القارئ العربي أمام مشهد استراتيجي يُعاد تشكيله يوماً بعد يوم، ويطال تأثيره العمق الدولي والإقليمي دون استثناء، ستنطلق السلسلة باستعراض طبيعة الحرب الروسية الأوكرانية، من خلال الغوص في جذورها التاريخية، وتحليل الأهداف العلنية والخفية لكل من موسكو وكييف، وموقع أوكرانيا في لعبة التنافس الجيوسياسي بين روسيا، الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. يتبع ذلك تسليط الضوء على الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا، باعتبارها رمانة ميزان العلاقات بين الشرق والغرب ومحوراً رئيسياً في صراعات النفوذ والطاقة.
ستتناول المقالات كذلك الانعكاسات الأمنية والاقتصادية للأزمة، بما في ذلك ارتفاع الإنفاق العسكري الأوروبي، أزمة الطاقة، والتضخم، وصعود سياسات الردع الجماعي، بالإضافة إلى تأثير الحرب على وحدة الصف الأوروبي؛ إذ كشفت الأزمة عن انقسامات واضحة في المواقف والاستراتيجيات داخل الاتحاد الأوروبي، كما سيتم تحليل تحولات العلاقات الروسية ـ الأطلسية، من خلال تصعيد التوتر العسكري وتثبيت النفوذ الأمريكي ضمن الأمن الأوروبي، وعودة الخطاب الأطلسي ليكون محدداً أولياً لاستراتيجيات الدفاع وتعزيز العسكرة في القارة.
وفي مرحلة لاحقة، تركز السلسلة على مستقبل النظام السياسي والأمني الأوروبي في ظل هذه العاصفة، بين أمل الاستقلالية الأوروبية وواقع الارتهان للمظلة الأمريكية من جهة، وصعوبة استبعاد روسيا نهائياً من منظومة أمنية شاملة من جهة أخرى. بذلك، تسعى هذه السلسلة إلى رسم خريطة شاملة للمتغيرات الكبرى في المشهد الأوروبي، وتسليط الضوء على عمق التحديات والتحولات التي تعيد تشكيل النظام الدولي برمته.

أترك تعليقاً

التعليقات