عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
لم تهدأ أصوات البنادق في الشمال السوري؛ لكنها هذه المرة لا تدوي إلا لتعلن عن وليمة دمٍ جديدة، تأكل فيها الضباعُ لحومَ بعضها. ففي إدلب، التي كانت عاصمة «ثورتهم» المزعومة ومناطقهم «المحررة»، تتصاعد أعمدة الدخان لتكشف عن حقيقة الصراع الذي حاولوا إخفاءه طويلاً؛ إنه ليس صراعاً على مبدأ، بل على مغنمٍ ونفوذ. الاشتباكات الأخيرة بين مليشيات سلطة «الشرع» ومرتزقة «كتيبة الغرباء» بقيادة الفرنسي عمر ديابي «أومسن»، ليست مجرد حادثة، بل هي الفصل الأخير من مسرحية الخيانة التي أخرجها «الشرع» بنفسه.
فالمقاتلون الأجانب، الذين كانوا وقوده للوصول إلى دمشق وأداته التي استعملها لضرب خصومه وتصفية الفصائل الأخرى تحت شعاراتٍ براقة، تحولوا اليوم إلى عبءٍ يجب التخلص منه بأي ثمن. إنهم البيادق التي انتهى دورها على رقعة الشطرنج، وحان وقت التضحية بها لإرضاء السادة الجدد في عواصم الغرب. القنبلة التي صنعها الجولاني بيده، انفجرت الآن في وجهه، لتتناثر شظاياها وتفضح عورة سلطةٍ قامت على جماجم الحلفاء قبل الأعداء.
وهنا، وسط دخان البارود، تنهض أسئلةٌ لا تنتظر جواباً، بل ترسم ملامح الجحيم القادم: هل يظن «الشرع» أنه قادرٌ على دفن الأشباح التي استدعاها بنفسه إلى عرشه المزعوم؟ أم أن هذه الأشباح ستطارده في كل زاويةٍ من سلطته الهشة، لتجعله سجيناً في قصره؟ وهل سيقبل «المهاجرون»، الذين باعوا كل شيء من أجل «خلافةٍ» وُعدوا بها، أن يتحولوا إلى مجرد قرابين على مذبح طموحات الجولاني السياسية؟
الأهم من كل هذا: من سيضحك أخيراً في هذه المسرحية العبثية؟ هل هي أجهزة المخابرات الدولية التي تشاهد الكلاب تتصارع على الفتات؟ أم هي الدول التي ستستقبل رعاياها كقنابل بشريةٍ جاهزةٍ للانفجار؟ أم أن «الشرع» و»مهاجريه» سيسقطون معاً في الحفرة نفسها التي حفروها لبعضهم، ليؤكدوا للعالم أن مستنقع الدم الذي سبحوا فيه معاً، لن يغرقهم إلا معاً؟ إنها ليست مجرد تساؤلات، بل هي الحبر الأخير في شهادة وفاةٍ لمشروعين وُلدا من رحم الخيانة، وماتا في حضنها.

سوق النخاسة الجديد وفواتير الدم القديم
لقد سقطت الأقنعة، وتبدلت الأدوار في مسرح العبث السوري. سلطة «الشرع»، تلك التي كانت بالأمس «هيئة تحرير الشام» وعلى قوائم الإرهاب الدولي، تسعى اليوم جاهدة لارتداء عباءة الدولة، متناسيةً أنها قامت على جماجم المقاتلين الأجانب أنفسهم الذين تتعهد الآن بتصفيتهم. فجأة، أصبحت الهيئة هي من يوزع صكوك الغفران ويقدم الضمانات للمجتمع الدولي، في مشهدٍ يكاد يكون هزلياً يجسد قمة الانتهازية السياسية.
فزيارة «الشرع» لباريس لم تكن رحلة دبلوماسية، بل كانت أقرب إلى رحلة تاجرٍ يعرض بضاعته القديمة في سوق النخاسة الجديد. ذهب ليقدم فروض الولاء والطاعة، حاملاً تعهداتٍ واضحة، على رأسها تصفية ملف المقاتلين الأجانب (تحديداً الفرنسيين)، أولئك الذين كانوا بالأمس «أسود الجهاد» حين كانت المعركة تخدم مصالح الغرب، وأصبحوا اليوم «صداعاً أمنياً» يجب استئصاله. إنها الازدواجية المقيتة نفسها التي فتحت لهم الحدود وموّلتهم، طالما كانوا وقوداً في حرب الوكالة، ليصبحوا اليوم مجرد نفايات سامة يجب التخلص منها.
لكن الواقع كان له الكلمة الفصل. فما حدث في محيط مخيم «الغرباء» لم يكن مجرد اشتباك، بل كان صفعة مدوية على وجه «سلطة الجولاني» الجديدة. بكل ما تحاول تسويقه من قوة زائفة وحفاوة دولية، بدت عاجزة تماماً عن سحق فصيل لا يتجاوز تعداده 150 مقاتلاً. وما سمّوه «العملية العسكرية» لم يكن إلا زوبعة في فنجان، انتهت بتسوية مذلة عبر وساطات «شيوخ جهاد» لا يعترفون بدولته أصلاً. والأدهى من ذلك أن وثيقة الاستسلام وُقِّعت على قصاصة ورق، بلا ختم أو توقيع رسمي، في مشهدٍ بائسٍ يثبت أن «الدولة» المزعومة ليست إلا مليشيا كبيرة، وأن هيبة قائدها لا تتجاوز حدود قصره.

صراع الجرذان على سفينة غارقة
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد اشتباك، بل هو التعرية الكاملة لجثة «الدولة» التي يحاول الجولاني تحنيطها وتسويقها للعالم. لقد أثبتت هذه الفصائل، التي صنعها بيده، أنها مجرد كيانات متوحشة لا تعترف بسلطة ولا تخضع لقانون؛ فعقيدتها الأيديولوجية العابرة للحدود، وحلم «الخلافة» المتعفن، هو جوهر وجودها الذي لا يمكن المساومة عليه. المعضلة أعمق من مجرد فصيل متمرد؛ فالأرقام تتحدث عن جيش من الأشباح قوامه 15 ألف مقاتل أجنبي، عدا عن عائلاتهم. نحن لا نتحدث عن أفراد، بل عن جماعات أيديولوجية مغلقة، تحمل مشروعاً أممياً يَعتبر الوطن صنماً، ويرى في أي محاولة لدمجه في كيان واحد خيانة عظمى تستوجب القتل. هؤلاء لم يأتوا ليموتوا من أجل سورية، بل أتوا لتموت سورية من أجل مشروعهم، وهم بالأصل كيانات متناحرة قضت سنواتها في حروب تصفيات دموية فيما بينها.
وهنا، يجد «الشرع» نفسه في مأزق وجودي لا فكاك منه؛ بين مطرقة المطالب الدولية التي تأمره بتفكيك وحوشه الأليفة، وسندان الجهاديين الذين ينظرون بعين الريبة إلى محاولاته اليائسة التودد للغرب. لقد باتوا على يقين أن مصيرهم هو التسليم في سوق السياسة، أو التصفية في عتمة الليل. وكل خطابات الطمأنة التي يلقيها الجولاني ليست إلا هراءً يائساً، فالمشكلة تكمن في جوهر وجودهم كسرطان يرفض الاستئصال. إنه لا يسير على حبل مشدود، بل يرقص على فوهة بركان أوشك على الانفجار.
لكن كيف لهذه الوحوش أن تعيش؟! إن أي محاولة لتفكيكها هي حرب على إمبراطورياتهم الاقتصادية التي بنوها من دماء السوريين. وفي خضم هذا، يقف المجتمع الدولي في موقف يتسم بأقبح صور ازدواجية المعايير، بينما تتقاطع مصالح الدول الإقليمية كالأفاعي في حفرة واحدة. وفي النهاية، سيظل لغم المقاتلين الأجانب خنجراً مسموماً في خاصرة سورية، يهدد بحرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، حرب ستحدد ما إذا كان سيبقى هناك شيء اسمه «سورية» في العقود القادمة.

أترك تعليقاً

التعليقات